بيننا وبين سنة ألفين، خمسون من الأعوام، ولا مرية أن هذه الحقبة تطوى بين جوانحها عجائب من المخترعات في مرافق الحياة، وسيكون من أثرها أن يلحق التغيير أساليب العيش في المأكل والملبس والسكنى، وكذلك لا بد أن تتقدم وسائل الانتقال، حتى تجاوز لمح الخيال. معجزات فائقة ننتظرها، ونستشف أطيافها في أفق المستقبل القريب، ولسوف تجعل العالم يحيا في دنيا جديد تتجلى فيها عبقرية المدنية والتحضر، وليكونن للإنسان في صميم كيانه موفور من ذلك كله، نصيب يحفظ له صحته، ويمد في عمره، ويواتيه بمختلف أسباب الوقاية ووسائل العلاج.

ولكن هذا الرقى المرتقب في شتی مرافق المجتمع البشري هل يتعدى في حقيقة أمره الجانب الشكلي الظاهر من حياة الإنسان؟.

هذه المخترعات، وإن بلغت شأوها الأقصى، هل تتغلغل إلي جوهر النفس الإنسانية وخصائصها الثوابت؟.


كافية مئات من السنين، بله خمسين، في تطوير الجنس البشري، ونقله من حال إلى حال.

إن وراء البشرية ركاما من القرون يقبل الغلو في الزيادة أكثر مما يقبل التحديد والنقصان، ولقد أرست هذه القرون قواعد من الغرائز والمنازع في قرارات النفوس، فهي تأبى أن تلين المؤثرات، محدثة تعد أعمارها بمئات السنين!.

مثل الإنسان فيما يتقلب فيه مختلف الحضارات كمثله فيما يستبدل من الثياب، فهو ينشئ الحضارة الجديدة كما يتخذ الملبس القشيب، بيد أنه هو هو على اختلاف عهوده في التحضر. كما أنه هو هو على اختلاف ما يلبس من أزياء.

تقول الحكمة البالغة: التاريخ يعيد نفسه، وليس للتاريخ موضوع إلا ذلك الإنسان، فهو الذي يعيد نفسه مرة بعد مرة، وهو الذي یكرر شخصیته الواحدة في حياته المتعاقبة، وإن تباينت فيها الصور والألوان.

إننا لنتساءل: هل تخرج هذه الكائنات البشرية يوما عن طبيعتها، فتتبدل خلقا آخر؟ هل ينتظر هذا الكوكب الأرضى، في يوم قريب أو بعيد، أن يدب على أديمه إنسان جديد خالص مما ترسب فينا من غرائز ونزعات؟.

أكبر الظن أن أعظم المخترعات شأنا لن يكون إلا وقودا تضطرم به غرائزنا الأصائل، وتقوى به نزعاتنا الثوابت، والحق أننا بهذه المخترعات، على اختلاف غاياتها، ترضى في أنفسنا أمهات الغرائز، من الغلبة والسيطرة وتنازع البقاء.

ما أبطأ الغريزة في التطور، وما أعصاها على التحول!.. إنها وليدة البيئة، فلا بد أن تعمل البيئة على تغييرها، حتى تنقاد وتستلين.

ولست أعنى بالبيئة الظواهر المصنوعة والقشور الزائفة، وإنما عنيت بها البيئة الطبيعية التليدة التي تزداد تأثلا وتأصلا على مر الأحقاب.

الإنسان في حياته الحضرية قسمة بين عقله وغريزته، وهما مختلفان في مدى استعدادهما لقبول التطور: العقل نزاع إلى التجدد، مولع بالاستحداث، ومجتهد في التغيير، والغريزة صلبة جامدة، حريصة على تراثها العتيق، تحتفظ به، ولا تتنازل عن شيء منه.

إذا نشط العقل يخترع، فواتاه التوفيق، ودانت له معجزات ترقی به في سلم الحضارة، لكن الغريزة تعمد إلى مجهود العقل، متطوعة لخدمة أغراضها، وتحقيق غاياتها، لا يعتاقها في سبيل ذلك شيء، لا يخدعنك ما ترى من بريق المدنيات، وما يتشدق به الإنسان من رقى الإنسان!.. وراء ذلك الستار من الطلاء يكمن الآدمي الأصيل، يبتسم ابتسامة السخر والاستهزاء بتلك الأوهام والأخاديع.

الإنسان هو الإنسان تسامى به العقل من أعماق الكهوف إلى أطباق القصور، ولكن الغريزة أبقته محكوم النفس، على اختلاف حالاته، بشريعة الغاب.

ما زالت «الحرب» في عصر العبقرية العلمية، والسمو الحضرى هي الفيصل الأخير فيما ينشب بيننا نحن الآدميين من مخاصمة ونزاع، فهي - إلى يومنا هذا - أوضح مظهر لتنازع البقاء بين الشعوب.. ظلت «الحرب» في ركب الإنسان تسايره، فالمعارك العالمية التي شهدناها هي في حقيقتها وجوهرها تلك التي كانت تدور بين الإنسان والإنسان في عصور ما قبل التاريخ، ولا فرق في الحقيقة والجوهر بينها وبين المعارك التي تقوم بين الحيوان والحيوان في سبيل حفظ الأنواع.

الحرب أداة طحن وغربلة، تعمل طوعا لغريزة السيطرة، ووفقا لحقيقة «بقاء الأصلح» ربي وحده علم هذا «الأصلح»: أی شیء هو؟ وما عناصر صلاحيته على الوجه الصحيح؟.

لعمرك أن النفس ما برحت هي النفس، خالدة النزعات والشهوات.. هذه شهوة التشفى والانتقام، شهوة التنكيل بالمغلوب على أمره، ولقد تجلت أبشع ما تتجلى في الحرب الأخيرة، فإذا هي تزداد قساوة وضراوة عما كانت عليه في العهود التي تلقبها عهود الوحشية والظلام.

هذه نزعة المغامرة والمخاطرة، تلك النزعة التي تتسم بالجرأة والتهور، مستمدة وقودها من غريزة الهيمنة والتآمر، ولقد تبدت صورا وألوانا في المجتمع الإنساني، لكنها لبثت خالدة، لا تنال منها رفاهية المدنية، ولا تخمدها رخاوة الأمن والطمانينة، فاتخذت لها على تعاقب العهود صورا جديدة وألوانا أخرى.

وفي الحق ليس إنسان اليوم أضعف جسارة وتعرضا للمخاطر من إنسان الأمس، وليس أهون منه إنكارا للنفس، وسماحة بالفداء، واحتمالا للمكاره والصعاب، فإن أعمال البطولة في ركوب البحار، كشفا من المجهول، وفي اعتلاء الطائرات، ذهابا إلى الأقصى، وفى حمل المهلكات، توصلا إلى الأهداف، لا تنزل درجة عن أعمال البطولة التي سجلها التاريخ للإنسان القديم، توطيدا لسلطانه في مؤتنف زمانه.

لقد تغلغلت الغرائز والنوازع، حتى أصبحت جزءا لا ينفصل في بذرة الحياة، فلكي تطمع في إنسان جديد بمنجاة من هذه الغرائز والنوازع يجب أن نغير تلك البذرة..

فهل هناك اختراع ييسر لنا أن نستبدل بغرائزنا العادية غرائز مستحدثات؟ هل في مستطاعنا أن نتحكم في النفس البشرية، فتخضع نزعاتها على وضع خاص؟ أقادرون نحن يوما على تشذيب وتهذيب تلك الغرائز العصية، والنوازع المتمردة، حتى يتسنى لفلاسفة المثل العليا أن يظفروا بالإنسان الكامل؟.

1950*

* كاتب وأديب مصري «1894 - 1973»