وقد ظلّ الحال بالسلفية من التقدير والإقبال عليها بالمكان المحمود حتى لم يعد في المنظور إلا مراحل يسيرة ويصبح المنهج السلفي رسالة إسلامية واحدة جامعة للجميع، وكان ذلك يؤذن -لو تحقّق- بقوة إسلامية دينية وعلمية وشعبية وسياسية وصناعية وعسكرية؛ لأن السلفية حين تنتهي من مرحلة الدعوة والتربية ستنصرف إلى مرحلة البناء والتنمية، فالمنهج السلفيّ يُعَبِّر عن الإسلام الصحيح المتّسم بالكياسة في التعامل مع الواقع، وذلك بالإصلاح من بنية المجتمع، وفي بنية الدين وهو أصول العقيدة وأصول العبادات القلبية والبدنية.

لكن الثغرة التي حدثت في مشروع البناء السلفي تمثّلت في أن بعض المناهج التي وُصِفَت فيما بعد بأنها حَرَكِيَّة كانت تشترك مع السلفية في أصول العقائد أحيانًا وفي التربية والأخلاق أحيانا؛ لكنها تُبَاينُها في أسلوب البناء والإصلاح وترتيب المصالح والمفاسد ومقاصد الشريعة، وهذه المناهج اختلط دُعاتُها ومُنَظِّرُوها بالسلفيين، ولم يكن هناك تفكير كبير بمخاطر جَرَّاء هذا الخلط، فلم يتمّ التمييز بشكل جيّد ودقيق بين السلفية المحضة التي كما تتبع السلف في أصول العقائد وتعظيم مصادر التلقي تتبعهم في مفهوم الإصلاح وأولوياته وطرائقه، الأمر الذي أسهم في ترويج الأفكار الثورية والتكفيرية تحت الشعار السلفيّ أو شعار حُسن الظن بِحَمَلَة الفكر الإسلامي ونصرتهم وعدم خذلانهم أينما وقفوا، وأدى هذا الخلط إلى ارتكاب الكثير من المواقف المحرّمة والمُجَرَّمة، ونسبتها زورًا وبهتانًا إلى السلفية، بدءًا بالتحريض على الحكومات، وانتهاء بالغلو والتكفير والقتل، وكل ذلك وإن ظهر وكأنه تطوّر تلقائي، إلا أن أصابع التآمر والتدبير الدوليّ لم تكن بمعزل عنه، وهذا مما أغنتنا الفضائح السياسية في الولايات المتحدة وفرنسا وإيران وغيرها عن تكلّف الانشغال بإثباته.

وقد كان التفوق السلفيّ في الانتشار بين الشعوب العربية والإسلامية وبين طلبة العلم والعلماء دافعًا للتيارات البدعية لتعيد حساباتها مع السلفية، فبدلًا من أن تنظر إليها أنها منهج تصحيح وتجديد وجمع كلمة وإحياء لمكانة النصّ، عادت بالنظرة الضيقة الدنيوية من أن السلفية منهج منافس، والمعركة معه معركة وجود تعني فقدان السلطات الكهنوتية لسدنة القبور ومشايخ الطرق والمقامات والزوايا، فأخذت أقطاب البدع بأنواعها تقوّي التفافها ضد السلفية، مستغلةً التآمر الدولي في مواجهتها ومتضامنة معه، لذلك رأينا النشاطات الكبيرة في الانقلاب على كلّ تسامح كان مع السلفية ليحلّ محلّه تحريضٌ وتأليب وتشويه ودِعاية، حتى من الجامعات والمؤسسات العلمية التي كانت تحترم السلفية وتُظهر التأثر بها كجامعة الأزهر التي بلغ اليوم من اضطهادها للسلفية وانقلابها عليها منعُ دخول كتب علماء سلفيين كبار لم يُعْلَم عنهم أيٌّ مما يؤفك من تهم التكفير والخروج والثورية، ككتب الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين والشيخ صالح الفوزان.


وبَدَأَ في التصريح ضدَّ السلفية رموز كبار، وللأسف يقولون عن السلفية ما أظنّ أنهم أعرفُ الناس بأنه خلاف الحقيقة، كشيخ الأزهر الذي رمى في لقاء تلفزيوني السلفية بما جاءت هي من أجل رفعه، وهو التعصب المذهبي، الذي كان هو طابع الأزهر قَبل تأثره بالسلفية، فقد كان الالتزام والتقيُّد بالمذهب فرضًا، ولم يكن لعالمٍ أزهريّ أن يخرج عن مذهبه، لا فتوى ولا تدريسًا، حتى دخلت السلفية في الأزهر وتأثرت بها أعرافه، فالتعدّدية المُتَّزِنَة إن كان الأزهر يفاخر بها، فإنما هي بضاعة السلفية رُدَّت إليها، وأيّ رفض للتعدّدية أكثر فجاجةً من أن يقبل الأزهر الآن كُتُبَ الإسماعيلية والزيدية والاثني عشرية ويمنع كتب مشايخ السعودية لكونها سلفية؟!

وكيف يسوغ لشيخ الأزهر أن يَتَّهم السلفيةَ بالتعصب وهو نفسه قد استقبلته الجامعات السلفية في السعودية مدرّسًا فيها رغم علمهم بأشعريته وريادته في الطرق الصوفية؟! ويعلم هو جيدًا أن الكثيرين من مشايخ الأزهر ممن لا ينتسبون للسلفية كانوا يعملون في جامعاتها دون تعصّب أو تمييز.

ومن أمثلتهم الشيخ الدكتور أحمد معبد عبدالكريم الذي عمل في جامعة الإمام محمد بن سعود ثمانية عشر عامًا، دَرَّسَ فيها في أقسام العقيدة والحديث والفقه، أي: أن السلفيين لم يتعصّبوا ضدّه أو يناله منهم أذى، وقد بلغ تسامحهم معه أن تمّ منحه درجتي الأستاذ المساعد والمشارك وهو في الرياض، ولما عاد إلى الأزهر أُعيد هناك إلى درجة الأستاذ المساعد، فإما أن الأزهر لم يعترف بالدرجة التي منحته جامعة الإمام، أو أنه لم يعترف بأهلية الدكتور لهذه الدرجة، ويعني هذا في كلتا الحالتين أنه وجد التسامح في جامعة الإمام وليس في الأزهر جامعتِه التي يعتزّ بتسامحها. ولستُ هنا لأردّ عليه، ولكن لأضرب به مثالًا على الانقلاب على السلفية، واخترته بعينه لأنه ظهر في لقاء قريب وهو يُقدِّم المقترحات للحدّ من انتشار السلفية في مصر، ويرى أنها انتشرت بالمال ولأجل الدنيا وليست للآخرة.

وهو انقلابٌ يظهر مِن تتبُّعِ جذوره وحاله ومآله العملُ على العودة بالأمة للخرافة والخزعبلات، أو إلجاء الشباب المنبهر بالعقلانية إلى عدم الثقة بالإسلام؛ لأن الإسلام الذي طابعه الخرافة لا يمكن أن يكون مقنعًا لباحث عن تصالح دينه وعقله.

وقد رأينا مصداقًا لذلك من مظاهر هذا الانقلاب غير ما ذكر جُرأة الخرافيين -التي لم تكن سابقًا- على إظهار خرافاتهم أمام الكاميرات، فأصبحنا نسمع مشايخهم يتحدّثون أمام الكاميرات وينشرون مقاطعهم عَمَّا يحدث لهم من كرامات مزعومة، أو حدث لشيوخهم أو مؤسّسي طُرُقِهم؛ لِيُرَسِّخوا بها الإيمان بولاياتهم، فمنهم من يلتقط صور نفسه في لحظة تجلِّي الملائكة له، وآخر يتحدّث عَمَّا أمره به الرسول صلى الله عليه وسلم حين زاره في بيته، كما ينقلون على الهواء حفلات الذكر التي يستخدمون فيها الرقص والضرب بالآلات والدوران حتى الصرع، الحاصل أنهم لم يعودوا يستحون من نشر هذه الخزعبلات بعد أن كانت سياستهم الاتقاء عليها، والظاهر أنها إستراتيجية جديدة، فإن التقية أو إخفاء ممارساتهم الحقيقية هي في نظرهم مما أدى إلى انحسار بدعهم لصالح السلفية، فرأوا الإعلان الصريح بها.

والأمر كذلك في القضايا العلمية، فقد كان الخلاف السلفي الأشعري في قضايا الأسماء والصفات حبيس المجالس العلمية، ولم يكن الأشاعرة يعلنون مذهبهم في تأويل صفات الله ويرون كما كان أبو حامد الغزالي يرى: أن قضايا علم الكلام مما تمنع منها أسماع العوام وألسنتهم، وكأن الأشاعرة اليوم رأوا أن العمل بهذه الفكرة أدى إلى تغلغل السلفية بين العوام، فبدؤوا وبقوة بنشر هذا الانحراف دون مراعاة للأضرار التي تحيط به.

والأمر الأطمّ الاستغاثة بغير الله تعالى بطلب المدد أو الغوث أو الشفاء، فهي مما تراجع الإعلان عنها أو تبريرها في الحراك العلمي الصوفي والأشعري؛ لكن الأمر انقلب مؤخَّرًا وأصْبَحْتَ ترى مؤسّساتٍ رسميةً تُعلن عن جواز الاستغاثة بغير الله من أهل القبور كما فعلت دار الإفتاء المصرية.

والذي يظهر لي أن هذا الانقلاب على السلفية، والرجوع إلى مكاشفتها العداء قد يبدو في بادئ الأمر تضييقًا على السلفيين، لكن عاقبته ستكون كشفًا لمغبّات البدع، وإبرازًا لفضائل منهج السلف على العقل والعلم {وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ}.