زادت المطالبات بضرورة تدريس الطلاب الصغار منهج الفلسفة لأهميتها البالغة -من وجهة نظرهم- في منحهم «معجزة التفكير الناقد»، وأصبح التفكير الناقد يربط بطريقة غريبة وقسرية بالفلسفة، مع أنه لا توجد علاقة سببية بينهما، والربط القسري يأخذ طابع الدعاية للفلسفة، فلها أنصار متعصبين ومؤيدين متحمسين ومنظمات دولية تسعى لإحيائها في المجتمعات الحديثة القائمة على التقنية العلمية التي أصبحت تنظر للفلسفة بوصفها نشاطًا دونيًا ولا علميًا، وأحيانًا لا عقلاني.

ومن هنا جاءت الحيلة الذكية بربط الفلسفة بالتفكير الناقد، وأحيانًا بالتسامح لمنحها شرعية لإدخال منتجاتها الاستهلاكية للمجتمع الحديث، سواء كانت هذه المنتجات مناهج دراسية، أو كتب تطوير ذات، أو دورات للأطفال تكسبهم معجزة التفكير الناقد.

لا شك أن الإيمان بوجود علاقة سببية بين التفكير الناقد والفلسفة يعكس جهلًا بطبيعة الفلسفة أو بطبيعة التفكير الناقد، أو جهلًا بكليهما معًا. ومع كل ما قيل وما سيقال عن الفلسفة، فهي مجرد تراث يوناني مرتبط بالثقافة اليونانية القديمة، لا أكثر ولا أقل.


هذا التراث القديم يعكس طريقتهم في فهم معتقداتهم الدينية ونشاطهم الفقهي لتأويل كتبهم المقدسة.

الفلسفة ليست إلا مقابلًا معرفيًا للفقه العربي في الحضارة الإسلامية مع اختلاف المرجعية. فالفقه الإسلامي يدرس في الجامعات الغربية بقسم «دراسات الشرق الأوسط» ضمن تخصص الدراسات الإسلامية أو تاريخ الفكر الإسلامي.

وبهذه الطريقة يجب أن تعامل الفلسفة بوصفها موروثًا يونانيًا يدرس في قسم التاريخ القديم أو الفكر اليوناني القديم. ولا أدري كيف يتعامل معها الكُتاب العرب اليوم بوصفها طريقًا سهلًا نحو التفكير الناقد، يجب أن تطرح كمناهج دراسية للأطفال الصغار.

من الإشكاليات الثقافية في التعاطي العربي مع الفلسفة، أنها تعامل خارج سياقاتها الدينية والثقافية بوصفها مشتركًا إنسانيًا، بمعنى أن نشاط الشعوب اليونانية الفكري لتأويل معتقداتهم الدينية، أصبح يعمم على كل الشعوب بمختلف ثقافاتها وأديانها وكتبها السماوية، وعندما نغذي الطفل في مراحل التعليم الأولية بصور مغلوطة ومضللة عن الفلسفة من خلال ربطها بالتفكير الناقد والتسامح والتنوير، فإن الطفل سينشأ معظمًا للموروث اليوناني والفكر الأوروبي.

والمطلع على الحركة الثقافية العربية في العقود الأخيرة، سيلاحظ ظاهرتين في غاية الوضوح، أولهما تعظيم الكتاب العرب للمفكرين الغربيين ولنشاطهم الفكري، في مقابل إعطاء صورة سوداوية عن التراث الأدبي والفكري في الثقافة العربية.

ولعلنا صادفنا كثيرًا من الأطروحات الفكرية التي صنعت صورًا نمطية زاهية عن مفكرين أوروبيين مثل فولتير وجان جاك روسو وجون لوك وديفيد هيوم، تظهرهم بمظهر الشخصيات المتنورة والإنسانية.

وفي المقابل نجد الفقهاء العرب يظهرون بصورة نمطية سلبية في أطروحاتهم، إما من خلال ربط نتاجهم الفكري والفقهي بأعمال العنف والتطرف في العصر الحديث، وإما توجيه أصابع الاتهام ومحاولة الطعن بإسهاماتهم العلمية.

وهذه الازدواجية في الطرح هي نتيجة طبيعية لوقوع المثقف العربي ضحية للمركزية الثقافية الحديثة، ولأننا تعاملنا مع الفكر الغربي وفلسفته بصورة غير ناقدة وغير موضوعية.