مثل هذه الأفكار الشائعة بكثرة في وسائل التواصل، هي نتيجة طبيعية لعيشنا في مجتمعات، تربط السعادة بالاستهلاك، وتعتقد أن الحاضر والمستقبل يمكن التنبؤ والتحكم بهما، وبالتالي فإن الأرزاق والحصول على الحياة الكريمة هما نتيجة طبيعية للتخطيط البشري الصحيح، ولا يوجد ما يكمن وراء العالم المادي يمكن أن يتحكم بأقدارنا. ومثل هذه الأفكار انتشرت بين الناس لاعتقادهم أن سعادتنا في الحياة الفانية مرهون بمقدار ما نستهلكه.
دعونا نعود للوراء للمجتمعات العربية القديمة، حيث جرت العادة عند عرب الجاهلية إرسال أطفالهم للبادية بعيدا عن ضوضاء المدينة وفسادها، وكي يتعلم الأطفال العربية النقية والفصاحة والشجاعة وسمو الأخلاق في أحضان الطبيعة.
كان العرب يدركون أن البادية تحمل من الأسرار الطبيعية ما يجعلها مكانا مناسبا لتنشئة الأطفال. يعيش الطفل في البادية شكلا من مشقة العيش وقسوته بصورة طبيعية لا يحسها داخل أسوار المدينة التي يختلف مفهومها آنذاك نسبيا عن مفهوم المدينة اليوم، ولكنها ما زالت تحمل مضمونا مشابها يجعل من المدينة مكانا تتركز فيه التجارة وتشيع فيه العلاقات النفعية والتبادلية بين الناس، وما يجعل منها أيضا محفزا للمشاعر الأنانية عند الإنسان.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر, فالحديث عن عادة العرب في إرسال أطفالهم للبادية، يعيد الذاكرة لقصة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مع مرضعته حليمة السعدية رضي الله عنها، فهذه القصة تحمل كثيرا من المعاني الإنسانية.
فقد جرت عادة نساء القبائل في البادية أن يأتين كل سنة إلى مكة ليأخذن أبناء الأشراف وذوي الجاه والثروة. فالإرضاع في ذاك الوقت كان مهنة، ومن الطبيعي أن تزهد المرضعات بالطفل اليتيم أو الفقير، ولكن مرضعة الرسول تعاملت مع الموقف بشكل إنساني، وهي لا تعلم أن هذا الطفل اليتيم الذي سيحل ضيفا عليها، سيكون الرجل الأكثر تأثيرا في التاريخ، فضلا عن البركات التي حلت عليها وعلى أبناء عشيرتها بعد قدومه.
يقول الكاتب الأمريكي مايكل هارت مؤلف كتاب «المئة الأوائل» معللا أسباب اختياره للنبي محمد ليكون في رأس القائمة التي تضم الأشخاص الذين كان لهم أعظم تأثير عالمي في مختلف المجالات: «إن هذا الاختيار ربما أدهش كثيرا من القراء إلى حد أنه قد يثير بعض التساؤلات، ولكن في اعتقاد المؤلف أن محمدا كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي».
إن أخذ نظرة شاملة على كتاب «المئة الأوائل» لهارت سيعطينا انطباعا حقيقيا أن أبناء الفقراء هم الأكثر تأثيرا في التاريخ. وبوذا الذي حل في المرتبة الرابعة بقائمة الرجال الأكثر تأثيرا، عاش في مقتبل حياته الترف والغنى، ولكنه هجر حياته المترفة وفضل الترحال والتقشف والفقر، فكان لاختياره حياة الفقراء بالغ الأثر في تكوين شخصيته الملهمة، وتحديد مسار حياته وحياة الملايين من أتباعه.
يقول هارت عن بوذا: «لاحظ أن السعادة لم تكن من نصيب الأغنياء أيضا إذ كان الفشل يحوطهم، لاحظ أن المرض لا بد أن يصيب الإنسان، ومن ثم لا بد لنا من الاستسلام صاغرين للموت. وقد فكر سيدهارثا بأنه يجب أن يكون هناك في الحياة شيء آخر غير الملذات الزائلة التي كانت سرعان ما يمحوها الألم والموت».
كان لأبناء الفقراء بالغ الأثر في تغيير مجريات التاريخ فهم أصحاب الفضل الكبير في تحديد ملامح مجتمعاتنا الحديثة، وكثيرا ما نسمع القصص الملهمة لأشخاص شقوا طريقهم من الصفر، وحققوا المستحيلات مع أنهم ترعرعوا في أحضان الفقر والفاقة.