فإذا ما شوهد أحد يحول نظره عن المتحدث.. فإن لهذا معنى مفهوما لكل من يراقبه.. جوهره يدل على أن هناك معارضة ما.. سيأتي وقت عرضها بعد نهاية قول المتحدث الذي بدأ بـ(العلم خير)، وعادة ما يقول - أي المبتدئ بالحديث- (العلم خير.. يا جماعة).
إن هذا المسلك العادل لم يتلقه آباؤنا وأجدادنا من الفلسفة الهيجلية، ولا الديكارتية، أو الكانتية، بل إن أغلبهم في القرى والبوادي لا يحسن قراءة فاتحة الكتاب، بل إنهم ربما نشأوا وعاشوا ودفنوا دون أن يقرأ عليهم وقد يسمعوا سطرا أو كلمة من سيرة (حاتم طيء)، ومع ذلك كانوا كرماء إنسانيين بالفطرة، وكانوا في اجتماعاتهم لا يذكرون (الموسر) قبل (المعسر)، وإذا كان ثمة من يرغب في إبداء الرأي فإن الكل يعطيه حق الاستماع، فتبادل الـرأي فـي حـضـرتـه هـو بـدايـة الأخـذ والإعطاء إلى آخـر الأصوات.
وإذا كان هناك من سؤال فهو : أليست إيقاعية الحياة الواقعية عندهم وجماعية الآلة الإنتاجية.. هي السبب الأساسي؟!
أعلم أنك كنت تتوقع سؤالا غير ضامن على جواب محضر، لكنك قد تبهر إذا علمت أن البناء بالطوب والحديد كان عيباً في القرية، وأن الغائب في صلاة مسجد الجمعة والجماعة.. كان يفتقد ويسأل عنه، فإن كان مريضا عادوه، وإن كان مسافرا تمنوا له العودة وعادوا أهله في الغياب، وإن كان مشغولا قالوا: (الله يعينه).
وربما أجاب أحد عنه معني فقال: سافر بزوجته إلى (مكة) لعلاجها. و(مكة) تعني المدينة المتمدينة منهم خارج القرية، والمجاوب يعني أنه الوحيد في القرية الذي تملك زوجته بحكم أن السفر العلاجي سابقاً عبادة.
لا أريد أن أحدثك بما كان عليه مجتمعنا في الماضي، وإن كنت أرغب بحرقة، فقد ذكر أحد الأصدقاء مـن شـمـال جزيرتنا أن شخصا في (حائل) الحبيبة داهمه ضيوف، فلم يجد ما يكرمهم به (وأول كرم أجدادنا في الاستقبال هو البطن) فقام إلى بعيره الوحيد الغالي فنحره لهم وعشاهم عليه.. أتدري بماذا سموه بعد ذلك؟ لقد سموه بـ (الهبيل) ومرادفاتها (الغبي) و(الأطوش) و(الساذج)، هذه التعليقات جاءت بعد جيل أو يزيد من هذه الحادثة، ولست أدعو إلى كرم الماضين الذي جاء أساسه على واقع الترحال البعيد في الفيافي والصحارى.
إن أحداث الأمور في غير مواقعها اليوم، وعلى أي صعيد ليس إلا نوعا من الفرض القسري الجاهز دون أية مراجعة أو تفكير، وبالطبع..باعتبار أن الماضي هو المجتمع بأكمله شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً. إن هندسة الروح قد يصعب تحديد اتجاهاتها.. لأنك ككاتب شاعر لا تستطيع أن تفرط في أي اتجـاه.. ولك أن تتناول المسطرة والفرجار لتقيس فوارق الزمان والمكان، وها إن الواقع دون أدنى حياء يرفع في الوجه ذيله.. بل في الوجه والعين والأذن واللسان والعقل، أما إذا كنت تدور عن عجالة الملخص..فإني سأجيبك بما قاله الموروث: لا يدري المرء أحيانا..إذا كان بعضه مصابا بخفة العقل أو بخفة الدم) وشكرا!
1998*
* روائي وصحافي سعودي " 1955- 2000"