فالانتساب في الطرح للشريعة الإسلامية أمر خطير، ودعوى لا ينبغي قبولها حتى تُعرض أقوال أصحابها على النصوص الشرعية، فإن وافقتها فهم حَرِيُّون بالتشرف بالانتساب إلى الإسلام، وأن يُدعى الناسُ إلى موافقتهم والاستفادة منهم، وإن خالفتها فدعواهم باطلة، وينبغي تحذير الناس من الاغترار بهم، وتنبيه غير المسلمين أيضا إلى أنهم لا يُمَثِّلون الإسلام.
فالحديث في هذا الموضوع واجب لِمَا ذكرتُ آنفًا، وأيضا لتقوية عزائمهم إن تبين صدق دعواهم، والنصح لهم إن تبين خلاف ذلك.
فأول ما نبدأ به هنا من مبادئ الإسلام في الفكر السياسي: العدل في القول مع الموافق والمخالف، فلا تثني على الموافق بما ليس فيه لتُظهره وتنصره، ولا تقلب حسناته سيئات كي نُحَبِّب فيه وتُقَوي جانبه، وكذلك لا تذم المخالف بما ليس فيه كي تغمطه وتُزهد في أمره، ولا تقلب حسناته سيئات كي نشنأه ونُكَرِّه الناس فيه.
هذا هو العدل الذي أمر الله به في كتابه حين قال: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا كونوا قَوّامينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالقِسطِ وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلى أَلّا تَعدِلُوا اعدِلوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبيرٌ بِما تَعمَلونَ﴾ [المائدة: ٨]، قال الإمام الطبري في تفسيرها: «ولا يحملنكم عداوةُ قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة».
إذن فغمط المخالفين بجعل حسناتهم سيئات أو الكذب عليهم، ليس من أخلاق المسلمين، ولو اتُخذ له مبررات سياسية، مهما كان المخالف، فقد نهى الله عن العدوان حتى على الكافرين الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام حين قال: ﴿ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا﴾.
فإذا نظرنا إلى غالب المشتغلين بالسياسة ممن يُنسبون إلى الأحزاب الإسلامية نجدهم بعيدين عن هذا المبدأ، وأضرب لذلك مثالاً قريبًا، وفي زيارة الرئيس الأمريكي للسعودية واجتماعه بالأمير محمد بن سلمان، وما حدث في مؤتمر جدة، فإن هذين الحدثين بكل تفاصيلهما ينبغي أن يكونا مفخرةً لكل عربي ومسلم وليسا فخرًا للسعوديين وحسب، ولا أحتاج أن أقول لماذا فإن الحدثين ينطقان عن نفسيهما، ولم يستطع الأمريكان والأوروبيون أنفسهم إلا أن يُقروا بأنهما يشكلان نصرًا سياسيًا وإعلاميًا للسعودية، ومع ذلك نجد كثيرًا من سياسيي الحركات الإسلامية والمتعاطفين معهم ضد هذه الحقيقة، ومنهم من يحاول تكذيب ما رأته الأعين وسمعته الآذان، هذا مع أنهم في مواقف أقل شأنًا بكثير من هذين الحدثين صنعها قادة أثيرون لديهم كالرئيس التركي، أقاموا الدنيا في رفع رؤوسهم بها والطنطنة عليها، مع أنها لا تعدوا أن تكون حركات إعلامية حصل بعدها ما ينقضها ويناقضها.
ومن مبادئ الإسلام العظيمة، الأمرُ بالصدق والنهي عن الكذب وعن إشاعته ونقل كلام أهله ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكونوا مَعَ الصّادِقينَ﴾، وقال سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن جاءَكُم فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنوا أَن تُصيبوا قَومًا بِجَهالَةٍ فَتُصبِحوا عَلى ما فَعَلتُم نادِمينَ﴾.
وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة، لكننا عند التطبيق نراه مُضَيَّعًا عند كثير من المنتسبين للحركات السياسية المنتسبة للإسلام، فما أكثر من كذبوا على السعودية أو نقلوا كلام اليهود والنصارى في حقها ونشروه كي يسيؤوا إلى بلادنا، ثم تأتي الأحداث مُكَذِّبة ما قالوه وما نقلوه، ولن أذهب بعيدًا عن الأيام الماضية حين جزموا أن السعودية ستشترك مع الكيان الصهيوني في حلف عسكري من خلال زيارة الرئيس الأمريكي، وبناء على هذه الكذبة حكم بعضهم بكفر الحكومة السعودية، وأقاموا لذلك خطبًا في المساجد، ثم انتهى المؤتمر على عكس ما قالوا، فلا تطبيع علاقات مع الصهاينة ولا حلف عسكري ولا ديانة إبراهيمية، وكل ذلك نُفي رسميًا من الخارجية السعودية، ومع هذا لم يستغفروا الله عن ظلمهم، ولم يعتذروا من كذبهم.
والعجيب أنهم في هذه الكذبة وفي كثير قبلها يستندون إلى تصريحات مسؤولين أو مغردين يهود، وقد أُمِرنا بالتبين عند نبأ الفاسق فكيف بنبأ اليهودي الكافر المعادي الذي يسره الإساءة للسعودية ويستغل أمثال هؤلاء لنشر مكائده.
ومن المبادئ الإسلامية أن درء المفاسد مُقَدَّم على جلب المصالح، وإذا تحتم حدوث المفسدة فالأخذ بأهون المفسدتين لدرء أعظمهما.
والمنتمون للحركات الإسلامية السياسية يُعْمِلون هذه القاعدة بأقوى ما يمكن من الإعمال مع من يُحبون ويهملونها أشَدَّ الإهمال مع يبغضون، فمثلاً نرى تركيا تتحالف مع إيران وروسيا في الملف السوري، وتُجري أعظم العلاقات التجارية والسياسية مع الكيان الصهيوني، ويجتهد هؤلاء في الاعتذار لها، بأنها تدرأ بذلك مفاسد أعظم فهي تداري الجيش التركي الذي يغلب عليه الكماليون العلمانيون، وتداري الضغوط الأوروبية والأمريكية، وتقيم العلاقات مع الصهاينة من أجل الفلسطينيين.
وهذه الأعذار يمكن أن يستند إليها أي زعيم عربي آخر فيما هو أقل بكثير مما تصنعه تركيا، ويمكن أيضا بسهولة الرد على ما يعتذرون به لتركيا، فدخول الجيش التركي إلى سوريا حتى هذه الساعة لم يقدم أي شيءٍ للثورة السورية، وإنما هو محاولات استغلال الوضع السوري الراهن للتوسع الحدودي، ودفعت ثمنَه تركيا بِصَمْتها عن دخول الميليشيات الإيرانية والجيش الروسي والأسدي واستباحة دماء أهل السنة في الأراضي السورية.
ومن المبادئ الإسلامية، أن التغيير الإصلاحي لا يكون بمصادمة الدول والحكومات والثورة عليهم؛ بل هذا لا يأتي إلا بالوبال والشر على الشعوب، وإنما يأتي التغيير الإصلاحي عن طريق إصلاح المجتمعات والعمل على إرجاعها إلى الالتزام بالدين، كما قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دينَهُمُ الَّذِي ارتَضى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدونَني لا يُشرِكونَ بي شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقونَ﴾، فالاستخلاف والتمكين يتحقق بعد تحقيق شرطه وهو الإيمان وعمل الصالحات؛ لكن هؤلاء السياسيين المنتسبين للإسلام أبعد الناس عن ذلك، فهم يعملون على الصدام مع الأنظمة وتأليب الشعوب على التمرد؛ الأمر الذي أدى إلى الإضرار بالعمل الدعوي الذي هو وسيلة الإصلاح الحق، ثم لمَّا نجحت بعض الثورات التي أسهموا في قيامها، لم يَعتبروا بما نجم عنها من فساد في البلاد والعباد، فشجعوا الثورة في السودان، ثم لما نجم الفساد عنها هربوا إلى تركيا وقطر وغيرها من البلاد ليؤلبوا على ثورة أُخرى، ولازالوا يُعملون أقلامهم وألسنتهم على أمنية شيطانية بأن يتكرر مشهد ليبيا واليمن والسودان وسوريا في السعودية، وهم بذلك يخالفون جملة من النصوص القرآنية، منها قوله تعالى: (فاعتبروا يا أولي الأبصار)، إذ أمر الله بالاستفادة من التاريخ ومجريات الأحداث، وهذا ما هم أبعد الناس عنه، وقوله تعالى: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها)، وهم والحق يقال ممن يسعون في الإفساد في الأرض، والقضايا التي يُخالفون فيها النص الشرعي أكثر من ذلك، والأمثلة على ما ذكرتُ وما لم أذكر يُمكن أن تُجمع في كتاب كبير.
وكلها تشهد بأنهم ليسو إسلاميين، وإنما هم أحزاب سياسية نفعية تركب الدين كوسيلة للترويج السياسي، ولديهم المرونة الكافية على مخالفة أي حكم شرعي ولو كان قطعيًا من أجل النجاح السياسي، كما فعل حزب النهضة حين وافق على زواج المسلمة بالكافر، وحين وافق كثير من ممثليه على المساواة بين الجنسين في الميراث، وكما فعل يوسف القرضاوي حين أفتى بجواز أن يتولى حكم مصر نصراني.
ولعله لذلك لم ينصرهم الله ولم يوفقهم، بل عاملهم سبحانه كما عامل بني إسرائيل حين عصوا عن أمره، إذ ضرب عليهم الذلة والمسكنة كما ضربها على بني إسرائيل، فهم منذ مائة عام رهن الخوف في بلادهم أو السجن أو التشريد، ولو نصروا الله حقًا لنصرهم كما وعد سبحانه ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدامَكُم﴾.
وهذه دعوة لهم للعودة إلى منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله تعالى والالتزام الصادق بالإسلام، والعمل من خلال تعاليمه.
وقد يقول قائل: إن قصارى ما ذكرتَه من الأمثلة أن يَكُنَّ أخطاءً، والأخطاء لا تقدح في المنهج؟
والجواب أن الأخطاء لا تقدح في المنهج إذا كان المنهج صحيحًا، والأخطاء ليست أصلاً، أما هنا فالمنهج عندهم خاطئ والأخطاء أصل في كل تدابيرهم، ولا أقوله إلا ناصحًا لهم محذرًا من يغتر بهم.. والله من وراء القصد.