كان المعجم معياريا يهدف إلى الحفاظ على مستويات متصورة للغة لإعانة المتعلمين على تفهم المراد من آيات القرآن الكريم والحديث الشريف، وهذا يكون بواسطة وضع صورة معيارية للغة تميز بين الفصاحة العربية التي مقياسها الأبرز هو النص القرآني وبين العجمة الدخيلة في الكلام. فلم يكن هناك تعصب لقبيلة أو ثقافة عرقية كما أسلفنا.
واليوم، في الجامعات العربية، وفي أقسام اللغة العربية تحديدا، انحرفت أهداف صناعة المعجم العربي وخرجت عن مقاصدها الأولى، فأصبح معجما كمعجم العين للخليل الفراهيدي ولسان العرب لابن منظور توصف بالمعاجم العراقية، بمعنى أن هناك معاجم مصرية وشامية تميز الثقافة العراقية عن المصرية في العصور القديمة، وهذه التصنيفات لم تكن موجودة في ذاك الوقت. والتشكيك في منهجية اللغويين القدماء لا يستند على أساس علمي أو موضوعي، فإذا كان علماء اللغة كالخليل قد جمعوا مادتهم اللغوية من بوادي الحجاز ونجد وتهامة، وإذا كان أبو عمرو بن العلاء قد ذكر أنه جاور البدو أربعين سنة لجمع مادته اللغوية، فأين يكمن المنطق في تسمية معاجمهم بــ (المعاجم العراقية).
أين المنطق في الادعاء أن هؤلاء العلماء فاتهم كثير من الألفاظ لأن مادتهم اللغوية جمع أغلبها في العراق؟ هل يعقل أن لغويا يملك عبقرية وقدرة فذة كالخليل ابن أحمد يقع في خطأ منهجي واستقرائي لا يقع فيه طالب مبتدئ، ويقوم باختزال مادته اللغوية في العراق وما جاورها، ويبني عليها نظرياته اللغوية التي أثبت الزمن أساسها المتين وقدرتها الفائقة على التفسير والوصف.
إن طرح مثل هذه الدعاوى المتهافتة قائم على نوع من التحيزات المناطقية والقبلية، وهذا ما نشاهده في أطروحات أصحاب هذه الدعاوى في الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، وانشغالهم بالتباهي بفصاحة لهجات قراهم وأبناء عشيرتهم، فكل يغني على ليلاه، والكل يبذل الجهد والوقت ويطرح الحجة تلو الحجة لتأكيد أن لسان قبيلته ضارب بفصاحته في أعماق التاريخ. وهذا واضح وجلي في كتاباتهم التي تحمل عنوان «أصالة لهجاتنا» ولا نحتاج لعين خبير لنعرف مآلات مثل هذا الطرح المتحيز وكيف سيعزز للتفرقة بين أبناء الوطن الواحد.