يلحظ المتابع أن هناك عملاً جاداً لتنشيط بدع القبوريين المخالفة للإسلام الصحيح، من بناء المساجد على القبور، ودعاء المقبورين من دون الله تعالى، وتلفيق الذرائع والتأويلات لهذه البدع المحرمة لإقناع الناس أنها من الدين، فما سبب هذا النشاط الجديد؟

هذا ما سأحاول الوصول إليه في هذا المقال.

وأبدأ أولاً بالقول، إن بدعة بناء الأضرحة وتقديسها ظلت ضئيلة الانتشار بين أهل السنة والجماعة حتى نهاية القرن السادس الهجري، وقليل من الأضرحة بناه أهل السنة قبل ذلك، والغالب على هذا القليل أنها أضرحة لم تبن للتقديس وإنما للحزن على المفقود، كشأن خطوات الشيطان دائماً تبدأ بقصد حسن لتسير بأهلها في طريق مخالفة الشرع الحنيف مثل الضريح الذي بنته أم الخليفة المنتصر لولدها في سامرا سنة 284 فإنه لم يبن للتقديس، وإنما بني لإظهار الحزن، وعلى الرغم من أن الدولة العباسية دامت بعد ذلك أربعة قرون وأن الضريح ضم اثنين من خلفاء بني العباس بعد ذلك فإنه لم يصبح مقدساً عند أهل السنة ولا عند خلفاء بني العباس.


وأما الذين بدأوا بهذه البدعة وعملوا على نشرها بين المسلمين، فهم السياسيون من أتباع المذاهب الباطنية التي تزعم الانتساب للتشيع لآل البيت، فالقرامطة والبويهيون والحمدانيون أول من بدأ ببناء الأضرحة كمزارات مقدسة أبرزها الضريح المنسوب إلى علي بن أبي طالب، والذي أنشئ بعد ثلاثمئة سنة من استشهاده، رضي الله عنه، من دون أي رواية مسندة تعضد سبب اختيار هذا الموقع، مع أن أبناءه وأحفاده، بل وأحفاد أحفاده لم يزعموا هذا الزعم، وذكر الخطيب البغدادي أن الضريح المنسوب لعلي بن أبي طالب إنما هو قبر المغيرة بن شعبة، رضي الله عنهما، لكن الدافع السياسي وراء إنشاء الأضرحة لا يبالي بدقة المعلومة، ويمكن اختصار الدافع السياسي لمثل هذا العمل باستقطاب العناصر الشيعية من أبناء الدولة لمناصرتها، بخاصة أن عدداً من هذه المزارات تنشئها الدول بعد ضعفها، كما حصل من نصر بن أحمد بن إسماعيل الساماني [ت330] الذي نصب وعمره ثماني سنوات وأحاط به مربون وأوصياء باطنيون أرادوا استغلال فترة حكمه في نشر مذهبهم فأنشأوا باسمه عدداً من الأضرحة، وهو غير نصر بن أحمد بن أسد الساماني فذلك رجل صالح في ما ذكر المؤرخون [ت270]

وكما فعل العبيديون في إنشاء ضريح للحسين سنة 550 أي بعد خمسمئة سنة من موته، لما ضعفت دولتهم لاجتذاب قلوب المصريين المحبين لآل البيت، مع أنه لا يوجد في ذلك المكان أي أثر للحسين، رضي الله عنه، بل الأمر محض كذب وافتراء، لكنهم زعموا للجهلة أن بطن الأرض للأولياء مثل البحر للسمك، وأن الحسين سبح في باطن الأرض كما تسبح السمكة في البحر إلى أن استقر في هذا المكان.

وبعد سقوط الدولة الفاطمية تكالب كثير من دعاة المذهب الباطني إلى مصر مدعين الولاية وحقيقة عملهم تكرار الطريقة التي نشأت بها الدولة الفاطمية في المغرب حيث كان الدعاة الباطنيون برئاسة أبي عبد الله الشيعي [ت 298] هم من روج لقدوم المهدي إلى المغرب واستقطبوا أكبر قبائله- قبيلة كتامة- للقضاء على جميع الدول السنية في المغرب، ثم في مصر والشام، فقدم لمصر لهذا الغرض أمثال أبي الفتح الواسطي [ت632]، وأبي الحسن الشاذلي [ت656]، وأحمد البدوي [ت675]، وإبراهيم الدسوقي [ت696] وغيرهم، لكنهم على الرغم من كثرتهم لم ينجحوا في إعادة الدولة الفاطمية أو إنشاء أي دولة باطنية في مصر، وذلك لاختلاف الظروف عما كانت عليه زمن نشأة الفاطميين في المغرب، لكنهم نجحوا في التغلغل داخل المجتمع السني وإظهار أنفسهم كصوفية مستغلين الجهل الشديد الذي صنعه وخلفه الحكم الفاطمي لمصر مدة قاربت الثلاثمئة عام في نشر الخرافات بين المصريين والغلو في أصحاب القبور واستغلال فكرة الكرامة في ملء سير من يزعمون لهم الولاية بدعاوى الكرامات، حتى لم يعد هناك فرق بين التصوف والمذهب الباطني المنسوب للتشيع إلا عند المحدثين والفقهاء الذين لولا وجودهم في الدولة المملوكية لضاعت معالم الدين بالكلية، لأن المماليك دعموا هذا التصوف الغالي، لا سيما في القبور لأمور عدة، منها: جهلهم بالدين فهم في بداية الأمر لقطاء تم جلبهم ظلما وقسراً وعدواناً من بلادهم لدعم أواخر الحكام الأيوبيين ثم استولوا على السلطة وتحمس كثير منهم للإسلام، ولهم إنجازات تذكر وتشكر، ولكن بقي الغالب عليهم الجهل بأحكام الدين.

ومنها أيضاً: اعتماد سياسة صرف سكان البلاد ليس عن الشأن السياسي أو الإداري والمالي وحسب، بل صرف الناس عن كل شيء حتى عن أنفسهم، وذلك باستغلال الفكر القبوري، الذي إضافة إلى حبريته يلغي مسؤولية الإنسان عن نفسه ويجعلها في يد المقبور أو سادن القبر أو شيخ الطريقة، وبذلك يتكون مجتمع خانع ذليل لديه قابلية أو قل: ترحيب بوقوع الظلم عليه واستمراء له، إضافة إلى ما تدره الطرقية من أموال للسدنة وشيوخ الطرق، الأمر الذي جعل قبور الأولياء المزعومين في العالم الإسلامي كله أكثر من عدد القرى والمدن، ويمكن اعتبار صاحب القبر وليا أو شخصية تاريخية تستحق التبرك بها بمجرد ادعاء أحدهم أنه رأى أن هذا قبر النبي فلان أو الصحابي فلان، ولذلك تكرر وجود أضرحة لشخصية واحدة في أماكن عدة كالحسين، رضي الله عنه، باسمه قرابة عشرة أضرحة والسيدتان نفيسة ورقية باسمهما أكثر من ضريح، وهكذا، ولم تقتصر الأضرحة على مكان الدفن بل لو نسجت قصة بأن الصحابي فلان مر بهذا المكان، فالأمر كاف لبناء مسجد فيه مقام يعبد من دون الله.

وكما قلت كان الحكام يجدون فائدة سياسية ومادية، فسدنة القبور لهم قدرتهم على تطويع الناس للحاكم وصرفهم التام عن كل مشكلاته.

وهذا يفسر بشكل واضح خضوع العرب التام للمماليك في مصر والشام لمجموعات من المماليك قرابة الخمسة قرون مع أن ذلك مخالف للإباء العربي، لكن خضوع العرب هناك باسم الدين لسدنة القبور هو السر في خضوعهم لمجموعات العبيد تلك المدة الطويلة، وكذلك هو السبب في ضرب تلك الدول بقوة شديدة كل من يحاول تطهير الدين من عبادة القبور، فمثلاً: ابن تيمية، رحمه الله، تغاضت دولة المماليك عنه على الرغم من النزاع بينه وبين العلماء وحكم قاضي المالكية بكفره وقتله، ومع هذا كان ابن تيمية يسجن عدة مرات ويخرج، وربما كانت الدولة تستثمر النزاع بينه وبين العلماء، لكن حين أفتى الشيخ بحرمة شد الرحال إلى المقابر اعتبروه قد تجاوز الحد وتم سجنه حتى مات، وكان في سجنائه السابقة ربما فرح بالسجن لأنه يخلو فيه إلى الكتابة والاطلاع، لكن سجنته الأخيرة بسبب حديثه عن حرمة شد الرحال للقبور منع من الكتابة حتى على الجدران باستخدام الفحم إلى أن مات.

كما يفسر قمع الدولة العثمانية لحركات كل من الشيخ البركوي [ت981]، وقاضي زادة [ت1045 ] وغيرهما، وهو السبب الدقيق للحملة العثمانية على الدولة السعودية الأولى، فسدنة الأضرحة وشيوخ الطرق كان الواحد منهم بمثابة جيش للدولة، لذلك كان تنبيه أي عالم إلى خطرهم على الدين بمثابة العدوان على الدولة.

ولهذا أيضاً لما قضى على بك الكبير[ت1187] على همام الهواري [ت1183] وأراد استرضاء المصريين وتسكين غضبهم ليتفرغ للخروج على الدولة العثمانية قام بوقف المزارع العظيمة على قبر أحمد البدوي وبنى عليه المسجد الكبير الذي هو موجود اليوم، مع أن عليا هذا ليس متديناً أصلاً، ويشكك بعض الباحثين في إسلامه كونه ابنا لقسيس نصراني من جورجيا.

ويشابهه في ضعف التدين الخديوي إسماعيل بن إبراهيم باشا الذي تقمص في حياته الشخصية الطبيعة الفرنسية وأراد أن تكون مصر قطعة من أوروبا في كل شيء، ومع ذلك بنى مسجداً على ضريح لص محتال يزعم له الولاية وأوقف على هذا المسجد أربعمئة فدان، وأصبح القبر والمسجد مزاراً للخرافيين يسمى ضريح الشيخ صالح أبي حديد!.

إذن فدعم الفكر القبوري في جميع العالم الإسلامي إستراتيجية سياسية بدأت بها الدعوة الباطنية ثم اقتنعت بها القوى السياسية التي ليس لها مؤهلات للبقاء، واعتمدت عليها في إخضاع الشعوب طيلة التاريخ السياسي للمسلمين.