نصيحة إلى اليسار الإسلامي
أثناء حقبة الاستعمار وما بعدها كان الخطاب الماركسي والقومي العلماني هو الذي بملأ الساحة العربية ، وسَلَّمَته دولُ الاستعمار الحكمَ في معظم الدول العربية لذلك كان لخطابه تأثير في الشعوب العربية فترة من الزمن إلى أن تآكل واضمحل ولم يعد له اليوم سوى وجود يسير غير مؤثر ؛ ونشأ في ظل هذا اليسار تيار حركي إسلامي -يمثله الإخوان المسلمون- وجد أن تجربة اليسار العلماني الثورية والخطابية قد مكنته من سُدَّة الحكم وصنعت له شعبية كبيرة في الوطن العربي ، فاعتقد منظرو اليسار الإسلامي أن هذا المنهج الثوري والخطابي هو الكفيل بإيصالهم لسدة الحكم كما وصل أولئك اليساريون عن طريقه؛.
فاستخدموا الوسائل نفسها من العزف على وتر جراح الأمة ومصائبها ، واتخاذ الموقف العدائي من الحكومات ، وبالفعل استطاعوا باستخدام أدوات اليسار الإعلامية مضافاً إليها النبرة الإسلامية والروح الدينية الوصولَ إلى قريب من شعبية اليسار العلماني نفسها بعد تآكله وسقوط مصداقيته ؛لكنهم أي اليسار الإسلامي رغم هذه الشعبية لم يستطيعوا الوصول لسدة الحكم ، لأن هناك عنصراً كان متوفراً لدى اليسار العلماني وهو الاستعمار الذي سلم السلطة لهم ، وهو غير متوفر لدى اليسار الإسلامي فكانوا يعتمدون على شعبيتهم لتُوصلهم إلى السلطة ، عبر الديمقراطية أو الإعداد للثورة الشعبية كما هو الأمر في التنظير الماركسي إلا أن كل ذلك لم ينجح ولا أعتقد أنه سينجح يوما ما ،مع أن المنظرين لهذا التيار ورغم فشلٍ مدتُه أربعةٌ وتسعون عاماً لازالوا مؤمنين بهذه الوسائل ، ولا نشعر منهم حتى اليوم بأي تراجع عنها ؛ فهم في حالة تقليد لاشعوري لليسار العلماني حتى في ظروف فشله وانكماشه ، فكما أن القوميين والماركسيين العرب في حالة انكماشهم يلبسون طاقية الوطنية ويختبئون تحتها ؛ بل ويُناكفون غيرهم بها ، تجد اليسار الإسلامي في كل حالات انكساره عبر تاريخه يلبس الطاقية نفسها مع أنه غير مؤمن بها.
إلا أن انكساره الحالي وفقدانه لهيكله وتشتت قياداته بين السجون ودول اللجوء حال دون تحديد التنظيمِ تكتيكاً مناسباً لهذه المرحلة، لذلك أَعْتَقِدُ جازماً: أنه في ظل غياب المنظرين للتنظيم ربما تكون عقول التابعين أكثر انفتاحاً لتلقي الأفكار من خارج جماعتهم ، وأن النصح سيكون في هذه الأيام أكثر جدوى .
وأهم نصيحة يمكن تقديمها لقيادات التنظيم وأعضائه :ضرورة حل جماعة الإخوان المسلمين ، فلا أعتقد أن تسعين عاماً من الفشل عاجزة عن أن تثبت أن بقاء التنظيم ما هو إلا استمرار لجميع المتاعب والمصاعب التي عانى منها أتباع الجماعة وعائلاتهم ، كما عانت منها الدول العربية على تفاوت بينها ،كذاك عانت من وجودها مشاريع الدعوة الإسلامية الناجحة ، والتي كان يمكن لها أن تكون أكثر نجاحاً لولا وجود هذه الجماعة الذي أسهم في دق الأسافين بين الحكومات والدعاة الصادقين إلى الله تعالى .
ومن هُنا يُنْصَح أفراد الجماعة وقادتها بالانتقال إلى العمل ضمن مشاريع دعوية خالصة لله تعالى وليست مشاريع دعوية تهدف للاستقطاب الحزبي ؛ فالجماعة منذ إنشائها تتحرك على أساس أن الحكومات هي الهدف الذي يجب الاتجاه لتغييره ، والصواب هو أن الشعوب هي المحتاجة بشكل أولى للحفاظ وللتمسك بالدين والعمل به ؛والعملُ الدعوي الصادق هو الذي يُمَكِّن الإسلام من القلوب والجوارح في سواد الأمة ، وليس الذي يُغير الحكومات أو يُدْخِل الشعوب في صراع دموي بينها وبين بعضها أو بينها وبين حكوماتها من أجل سيادة الجماعة تحت شعار سيادة الأمة ، والواجب الشرعي هو السعي لتكون الأمة قوية في دينها وممانِعة عليه وعلى قِيَمِه فحينئذٍ لا شك أن الحكام سيستجيبون لأكبر قدر من خيارات شعوبهم إما بشكل تلقائي لكون الحكومات جزء من الأمة وتتغير إراداتُها وطبائعُها كما يتغير الجز بتغير الكل ، وإما وفق نظر استراتيجي ،لأن الحكومات ستكتشف أن موافقة توجه الشعب أفضل من معاندته ، وإما وفق السُّنة الإلهية في كون عمل الصالحات سببا للتمكين:(وعد الله الدين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض) والخطاب هنا ليس لأفراد مُعَينين أو جماعة بعينها ، وإنما لمجموع الأمة ، فحين تنجح المشاريع الدعوية في جعلها رهنًا للدين فذلك سبب لبسط الرحمة الإلهية التي منها تسخير الحكام للنهضة بالشعوب وإقامة العدل بينهم ، ولن يقوم بهذه المسؤولية إلا أهل الدعوة الصادقة السائرة على منهاج النبوة .
وهذا يقتضي ردم الخنادق بين الدعاة والحكام ، لتزول حالة الشك في أهل الدعوة التي لازالت تنتاب الحكومات و من أهم دوافعها شحناتُ التشكيك في الدول والتربص بها وغمط الحق والفجور في الخصومة معهم وهي الصفات التي كان اليسار الإسلامي يربي الشباب عليها ، وكانت سبباً في التضييق على الدعوة في كثير من دول العالم الإسلامي ، وسبباً في منع الدعوة والتضييق على المسلمين في دول إسلامية أخرى .
وذلك لا يعني تزكية الحكام خلال التسعين عاماً الماضية ؛ بل فيهم الصالح والطالح والوطني والقومي والصادق والخائن ، لَكِنَّ مواقفهم من الدعوة في الداخل كان يمكن لها أن تكون أفضل بكثير مما صارت إليه بسبب الكيد السياسي الذي مارسته هذه الجماعة في أوطانها ، بسبب إصرارها على أن التغيير يبدأ من الأعلى ومن أجل ذلك لم يُبَالوا بتقديم التنازل عن مُسَلَّمَات دينية ، والتغاضي عن كُفْرِيَات كبيرة تحت بند السياسة الشرعية الذي هو في الأصل باب صحيح مِن أبواب الفقه لكن الجماعة أخرجته من الضوابط الأصولية لتعمل تحت رايته المفتوحة بغير انضباط إلى حد أنه أصبح من الممكن وصفها بالجماعة الباطنية ، أي التي ظاهرها مناقض لباطنها ، وهي سِمة لا تتناسب مع جماعة تَدَّعي أنها جماعة دعوية.
بل وصلت الباطنية إلى حد التآمر على الأمة بالارتباط بعدوها الصفوي والترويج له إبتداءً من نجاح ثورة الخميني عام ١٣٩٩هـ وحتى اليوم ، ذلك الارتباط الذي وصل حد ارتماء حماس وهي إحدى منظمات اليسار الإسلامي [الإخوان المسلمين] في إحضان إيران بدعوى أن الدول العربية السنية لم تقم بدعمها ، وهي دعوى كاذبة ، والعكس هو الصحيح فالدول السُّنية لم تتأخر عن دعمها إلا بسبب ارتباطها بإيران ، فالمشروع الإيراني في نظر الدعاة حقاً والسياسيين حقاً لا يقل عن خطره عن المشروع الصهيوني ؛ لكن تأثير الفكر اليساري العلماني عليهم هو الحامل لهم على تبرير أخطائهم بغطاء المظلومية والتهييج على الحكومات كما كان يفعل اليسار العلماني في تبريره الارتباط بالسوفيات وعداوة دول الخليج .
والبعد عن التقعيد الأصولي في السياسة الشرعية وجعلها غطاءً لأي انحراف ديني في سلوك اليسار الإسلامي جعلهم جماعة دون مبدأ وجماعة لا تبالي بالتناقضات ، وهذا يمكن أن نضرب له عشرات الأمثلة لكننا سنقتصر على آخر الأحداث وهو موقفهم في الحرب الأوكرانية كما توضحه كتابات الكثير منهم ، فهم يقفون في صف الأمريكان والغرب الأوروبي بحجتين ، الأولى: أن أوكرانيا دولة معتدى عليها وهم مع المظلوم ، مع أنهم حتى اليوم لم يعتذروا عن موقفهم من احتلال صدام للكويت ، الحجة الأخرى : أن روسيا تحارب الشعب السوري وتناصر نظام بشار ، مع أنهم أصدقاء إيران التي سبقت الروس في نصرة بشار واستباحة دماء وأرض الشعب السوري !
إن الاستمرار في متابعة الفشل كبرياء خبيثة ، فما بالك إذا كان الفشل يؤدي إلى أضرار بحاضر الأمة ومستقبلها ودعوتها فيكون الاستمرار فيه مشاركة في حرب الأمة ، ولذلك لا يختلف عندي حزب علماني يحارب قِيَم الأمة علانية وحزب علماني يدعي الانتماء للفكر الإسلامي وهو في الحقيقة يصيبه بالتسمم القاتل .
إن الدعوة إلى الله تعالى هي الواجب المتعين اليوم على كل أتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم من كلٍ بحسبه فالعالم بعلمه والعامل بعمله ﴿قُل هذِهِ سَبيلي أَدعو إِلَى اللَّهِ عَلى بَصيرَةٍ أَنا وَمَنِ اتَّبَعَني وَسُبحانَ اللَّهِ وَما أَنا مِنَ المُشرِكينَ﴾ [يوسف: ١٠٨] والبصيرة في الآية هي الدليل الشرعي وليس الهوى أو المصلحة المحدودة سواءً أكانت مصلحةً شخصية أم حزبية ، وإن رجوع أتباع هذه الجماعة والمتعاطفين معها إلى المعسكر الصحيح ، معسكر الدعوة الصادقة الخالصة لله تعالى المنزهة عن كل غرض حزبي أو شخصي هو الكفارة الوحيدة التي يمكن أن تقدمها الجماعة عن أخطائها في حق الأمة ، فإن حماية أصول الدين من التكالب العالمي ، وحماية الأسرة المسلمة من الحرب عليها ، وحماية المرأة المسلمة من موجات التغرير بها وحماية الشباب المسلم من الاستدراج إلى الهاوية ، وحماية الدول المسلمة من مشاريع الاستعمار الجديد ، كل ذلك يعدل آلاف المرات إضاعة الأعمار واستهلاك الجهود في نصرة جماعة متآكلة ولم يعد لبقائها من ثمرة سوى أن تكون مبرراً للسفهاء العلمانيين الاستعداء على الدين والتدين. .