كعادته دوما، تسامى التحالف بقيادة المملكة فوق التجاوزات. تغاضت المملكة عمن يسيئون إليها، واختارت التعامل بأسلوب الكبار، وقررت تعليق العمليات العسكرية للتحالف العربي في اليمن، رغبة في إنجاح المشاورات التي تستضيفها بين الأطراف المختلفة، والتي دعت لها الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، رغبة في إيجاد حلول تحقن دماء اليمنيين، وتوقف النزيف الذي يحدث، وتعيد أرض العروبة كما كانت طوال عهدها واحة للأمن والأمان، ومهدا للحكمة التي غابت خلال الفترة الماضية عندما تقاتل أبناء الشعب الواحد، وتعاركوا في غير معترك، وسمحوا بالتدخل لعدوهم المشترك الذي لا تهمه مصالحهم ولا يكثرت لمكاسبهم، ما دام مشروعه التدميري يجد من يتبناه.

ولا خلاف بين الجميع على أن الخلافات الهامشية التي تعصف بأبناء اليمن هي التي سمحت للعدو بالتسلل والاستفادة من التباعد في المواقف، وتأجيج الخلافات، وتجنيد العملاء الذين وقفوا ضد بلادهم بكل ما تحمله من عراقة وأصالة ضاربة بجذورها في أرض التاريخ.

ومما يؤسف له أن اليمن الذي عرف بتعايش مواطنيه من مختلف المذاهب والطوائف يتعرض الآن لأكبر عملية تخريب لنسيجه المجتمعي بعد أن لجأ المغرضون لافتعال نزاعات لا يوجد لها أساس إلا في نفوسهم المريضة.


تلك الخلافات تنادى الكثيرون للتسامى فوقها وتجاهلها، والنظر بعين المصلحة العامة، وإيلاء الأهمية والأولوية المطلقة لمصلحة الشعب العربي الأصيل، للتخلص من الكابوس الذي جثم فوق صدورهم خلال السنوات الماضية، وبعد تحقيق النصر يمكن لهم أن يجلسوا على مائدة الحوار ليتفاوضوا ويتوصلوا للحلول التي ترضي جميع الأطراف، وهي مهمة ليست بالعسيرة، فالقواسم المشتركة كثيرة، وما يجمعهم أكثر مما يفرقهم، وعبر تنازلات متبادلة يستطيع اليمنيون التغلب على شيطان التفاصيل الهامشية.

في هذه الأيام المباركة، والجميع يعيش أجواء رمضان وروحانيته، فإن الآمال معقودة على من عرفوا طوال تاريخهم بالحكمة أن ينحازوا إلى مصلحة بلادهم، وأن يقفوا إلى جانب شعبهم الذي عصفت به الخلافات وأوردته موارد الهلاك، وأوصلت الأوضاع الإنسانية للدرجة التي صنفت فيها الأمم المتحدة اليمن بأنه يمثل أعظم مأساة في الوقت الحالي.

الأنباء التي رشحت من قاعات الاجتماعات تشير إلى أن مجلس التعاون الخليجي قد اكتفى بلعب دور بسيط يتمثل في تقريب المسافات، وعدم الخوض في التفاصيل، والابتعاد عن التدخل في سير المشاورات إلا في حال انسداد أفق المفاوضات. حتى في هذه الحالة فإن دور المجلس يقتصر في استنفار المواقف الإنسانية وتحفيز جميع الأطراف على تقديم تنازلات متبادلة، وعدم السماح لليأس بالتسرب إلى النفوس.

أما الدولة المستضيفة فقد التزمت بمنهجها الذي عرفت به على الدوام بعدم التدخل في شؤون الآخرين، وعدم ممارسة أي نوع من الضغوط، وتهيئة الأجواء التي تقود للتغلب على الخلافات، دون انحياز لطرف على حساب الآخر. حتى رؤيتها الخاصة للأزمة فإنها لا تسعى إلى فرضها على الآخرين أو إرغامهم على قبولها. لذلك فإن كل المؤشرات تدل على حدوث تقدم كبير في سير المفاوضات.

على أطراف المشاورات أن ينتبهوا لحقيقة واضحة هي أن الزمن ليس في صالحهم، وأن استمرار الأزمة لا يقود إلا للتعقيد وارتفاع تكلفة الإصلاح والإعمار، وأن جميع الأطراف خاسرة في حال استمرار النزاع، ولا كاسب إلا من اعتاد تأجيج نيران الخلافات وتفجير الأوضاع لتنفيذ مطامعه التوسعية التي لا تمت لمصالح اليمن بأي صلة، ولا تتقاطع مع تطلعات أبنائه وأحلامهم.

أقول لهم بمنتهى الحب والإعزاز إن أنظار العالم كلها تشخص نحوكم في هذه اللحظات التاريخية، ويعلّق أبناؤكم وإخوانكم الذين تشتتوا في كافة أصقاع الأرض آمالهم عليكم في انتظار اتخاذ القرار الصحيح الذي يقودهم للعودة، ويعينهم على إعمار ما دمرته الحرب واللحاق بما فاتهم من قطار التنمية والازدهار.

وعليهم إدراك أن الحضن العربي هو ملاذهم ومنتهاهم، وأن إخوانهم في جميع الدول العربية وفي دول الخليج على وجه الخصوص لا يريدون لهم سوى التقدم والرفعة، وعلى أتم استعداد لأن يمدوا لهم أيادي العون والدعم، ليس منة أو تفضلا، بل لأنه واجبهم الذي تفرضه عليهم وشائج القربى وصلة الدم والدين الجامع واللسان العربي المشترك والمصير الواحد.

لن تكون مهمتكم صعبة إذا خلصت النوايا وتصافت النفوس والقلوب، فليس عليكم الابتداء من نقطة الصفر، فهناك ثوابت أجمعتم عليها من قبل وتلاقت عندها قناعاتكم، وهي مؤتمر الحوار الوطني، والمبادرة الخليجية، واتفاق الرياض الذي يمثل أرضية صلبة لأنه يحوي تصورات متكاملة للتوافق حول كل نقاط الخلاف. فالاتفاق لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وتطرق لها وأوضح كيفية التعامل معها، وقضى على كل الهواجس والشواغل.

وتأكدوا أن التاريخ لن يرحمكم إذا أخفقتم في التوصل إلى حلول ناجعة توحد كلمتكم وتجمع صفوفكم، وأن الذاكرة الجمعية لن تبرر لكم وزر الفشل - لا قدر الله - وأن الأجيال المقبلة ستحاسبكم إذا ارتضيتم بقاء الحال على ما هو عليه، لأن ذلك لا يعني سوى المزيد من الدمار والضياع.

عودوا يا أبناء التاريخ العريق والحضارة إلى قواعدكم العربية، فهي واقعكم ومصيركم، وتجاهلوا من يريد بكم السوء، ولا تصغوا إلى الأصوات المنكرة التي لم تقدم يومًا سوى أدوات الموت والدمار، ولم تعرف سوى أصوات البنادق وهدير المدافع، فهؤلاء لا يعرفون قدركم ولا يدركون حقيقتكم ولا يريدون لكم إلا أن تكونوا سلمًا يصعدون عليه لبلوغ أهدافهم وغاياتهم. عودوا فقد اشتاق العالم لسطوع الحكمة التي عرفتم بها على مدار التاريخ، فهل أنتم فاعلون؟.