الأول: المذهبية التي أخذت مكان الدليل من الكتاب والسنة، ولذلك لم يعد للبحث في الأصول حاجة، فالفقيه من يحفظ أقوال المذهب بأدلتها أو من دون أدلة، وحين يستخدم بعض الفقهاء في مطولاتهم قواعد أصولية فليس ذلك إلا حكاية عن الإمام أو تم استحضارها لنصرة المذهب وليس استدلالاً مستقلاً، وبذلك فهذه الكتب التي تستغني عن الدليل أشد استغناء عن ذكر القاعدة الأصولية التي فُهم الدليل بموجبها.
الآخر : تلبسُ الفقهاء والأصوليين بعلم الكلام الذي صرف أصول الفقه عن مقصده الأساس وهو فهم الأدلة إلى أن يكون علمًا من علوم الجدل يطلب فيه أصحابُه المغالبة في مناظرة أصحاب المذاهب الفروعية الأخرى؛ حتى إن المحاولات القليلة التي أُلف فيها في تخريج الفروع على الأصول كانت لبيان ما يقوله المُناضر في المغالبة التي كانت تقع بين علماء المذاهب للانتصار لمذاهبهم وليس للدليل، ككتاب الدرة المُضية والمعونة في الجدل والمنهاج في ترتيب الحِجَاج، فكلها جَدَل من نحو إذا قال الشافعي كذا تجيبه بكذا؛ لكن لم تكن مهمتها إعمالاً حقيقياً لأصول الفقه بحيث يكون قاعدةً لفن الاستنباط.
كما أدى الانشغال بعلم الكلام إلى عزل الأدلة العقدية عن دائرة إعمال القواعد الأصولية، فالمعلوم أن لغة العرب واحدة والقواعد الأصولية التي هي سبيل فهمها لا يمكن التفريق فيها بين ما جاء في فقه العبادات أو فقه المعاملات أو فقه الجنايات أو فقه النكاح، فهذا لا خلاف فيه، فكذلك لا يمكن التفريق بين هذه كلها وفقه العقائد؛ لكن إعمال علم الكلام في العقائد أدى إلى إسقاط أصول الفقه عند النظر إلى أحكامها، فجماهير الفقهاء والأصوليين اعتمدوا قواعد علم الكلام لفحص أدلة العقائد تاركين علم الأصول، فأدى ذلك إلى القول بمجازية صفات الله الواردة في كتابه مع أن قواعد أصول الفقه تأبى ذلك، وأنكروا الاستدلال بأخبار الآحاد في العقائد مع أن قواعد أصول الفقه تأبى ذلك، وهم في الأصول يُقررُون أنها تُفيد القطع إن احتفت بها القرائن، ومع ذلك لا يُعملونها في العقائد؛ وكذلك لا يُعملون قواعد العام والخاص والمطلق والمقيد حين تكون في جانب العقيدة، كقوله، صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة» فإن كل من ألفاظ العموم التي لا مخصص لها، ومع ذلك يتوسع أكثرهم في تجويز أصناف من البدع حتى غلبت البدع على السنن في جميع العالم الإسلامي، والذين أعملوا أصول الفقه في العقائد، ولم تستهوهم مناهج المتكلمين، هم من كانت لهم الصولة في إنكار البدع كالطرطوشي صاحب الحوادث والبدع والشاطبي صاحب الاعتصام بالسنة.
وظلت العلاقة بين العِلمين الجليلين، الفقه وأصول الفقه علاقة عزلة لكل منهما عن الآخر إلا في شروح بعض المبدعين كابن دقيق في شرحيه على الإلمام وعلى عمدة الأحكام.
حتى ظهر ابن تيمية أحمد بن عبدالحليم، وكان ظهوره في أجواء نهضة في علم الحديث ساعدته على إحداث نقلة أيضاً في ربط علمي الفقه والأصول ببعضهما، فلم يكن ما فعله تكراراً للاستدلال بأحاديث المذهب كما فعل سلفه الموفق بن قدامة أو جده عبدالسلام بن تيمية؛ وإنما نظراً جديداً في الأدلة ألجأه إلى استخدام القواعد الأصولية لتجديد الاستنباط من الأدلة، لذلك خالف مذهب الحنابلة في مسائل كثيرة وافق فيها الحنفية أو المالكية أو الشافعية طوراً. صحيح أننا لا نجد له كتاباً مفرداً في أصول الفقه سوى مسودة آل تيمية، لكننا نجد مسائل الأصول مبثوثة في معظم فتاواه يستدل بها وينصرها بشكل لا تراه عند سواه، وله رسائل في مسائل أصولية مفردة مما كان فيها خلاف كبير بين العلماء.
وكان لظهوره الأثر البالغ في إحياء الاجتهاد وظهور أئمة بعده، يجتهدون في المسائل ويعتمدون على الأدلة ويستعينون على فهمها بقواعد أصول الفقه كابن القيم وابن كثير وابن حجر العسقلاني وابن أبي العز وابن الهمام؛ وكان من سمات حركة التصحيح التيمية أنها لم تقتصر على إعمال الأصول في مسائل الفروع؛ بل وأعمالها في مسائل الاعتقاد، فتجده في كثير من فتاواه وهو يرد على المخالفين أو يقرر مسائل العقيدة يستخدم القواعد الأصولية في استدلالاته.
وفي الجملة نتج عن حركة التصحيح التيمية انفتاح كبير على الاجتهاد وعودة كبيرة إلى إعمال أصول الفقه بانت معالمها من خلال كتب شروح الحديث كفتح الباري وعمدة القاري وطرح التثريب في شرح التقريب؛ لكن عاد التقليد في مسائل الاعتقاد بسبب القمع الذي يلاقيه أتباع منهج السلف؛ وحال دون أن يحصل انفراج تام للاجتهاد وإعمال لأصول الفقه دخولُ الدولة العثمانية وإغلاقهم باب الاجتهاد ونجاحهم في محاربتهم حركات الدعوة إليه كحركات كل من البركوي وقاضي زادة وسليمان الروداني، وضعف التأليف في أصول الفقه أو كاد ينعدم سوى حواشٍ وتقريرات على الكتب القديمة كحاشيتي العطار والبناني، إلى أن أحيا الله تعالى الاجتهاد مع انطلاق الدولة السعودية الأولى ، فكان في ذلك إعزاز لعلاقة الفقه بالأصول عملياً؛ وعدم تأليف علماء الدعوة في الأصول لم يكن زهداً به وإنما لكونهم يتواضعون عن التأليف مطلقاً كما أنهم منشغلون بالتصحيح العقدي الذي بذلوا في سبيله أعمارهم؛ ودعوتهم للاجتهاد وإعمال الأدلة في وقت عم فيه التعصب المذهبي وطم، كان كافياً ليعد دعوة لإعمال قواعد الأصول في فهم الأدلة لا سيما أدلة العقيدة التي أعملوا عموماتها ومطلقاتها وعينوا مخصصاتها ومقيِّداتها بشكل لم يسبقوا إليه بعد ابن تيمية.
فمنذ إنشاء أول جامعة سعودية، أُحدث فيها تخصص أصول الفقه وكان له قبول عظيم عند الدارسين والباحثين، وأصبحت الجامعات السعودية مركزاً لإعادة تحقيق ونشر أكبر الكتب الأصولية في جميع المذاهب.
وسوق الكتب السعودية من أكبر الأسواق التي تروج فيها كتب الأصول، والقواعد الأصولية مُراعاة في فتاوى العلماء المعتبرين وفي هيئات الإفتاء الرسمية، وحسبك مؤلفات الشيخ محمد الأمين الشنقيطي وفتاواه وأخص منها تفسيره أضواء البيان التي ملئت بالبناء على القواعد الأصولية وهو سلفي سعودي موريتاني الأصل.
وقد ظهرت فئة ممن انتسب للعلم ليست في السعودية وحدها بل في عدد من البلدان الإسلامية لا يُقيمون لعلم الأصول وزنا، لكنهم لا يمثلون الاتجاه السلفي المنضبطة فتاواه بضوابط الدليل والقواعد الأصولية.
وقد حظي تخريج الفروع على الأصول بعناية فائقة لدى الباحثين السعوديين حتى إنك لا تكاد تجد قاعدةً أصولية إلا وقد تم تخريج الفروع عليها في رسالة علمية أو بحث مستقل، وظهر علماء سلفيون كتبوا موسوعات في أصول الفقه كالشيخ عبدالكريم النملة والشيخ يعقوب الباحسين.
ويميز منهج السلفيين في الاستنباط الأصولي أنهم لا تناقض لديهم بين الاستنباط الأصولي في الفقه والاستنباط الأصولي في العقيدة، بينما غير السلفيين لديهم هذا التناقض بشكل غزير، ومثال ذلك قاعدتا: أن النفي في المنهيات أبلغ من النهي وأن النهي يفيد التحريم إلا بقرينة، يعملها غير السلفيين في الفروع كحديث «لا نكاح إلا بولي» فيجعلون الولي شرطاً لصحة النكاح ولا يعملونها في العقيدة كقوله، صلى الله عليه وسلم، «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» فيجيزون شد الرحال إلى القبور والمساجد المبنية عليها على خلاف الأمر الشرعي أيضا، هذا إضافة إلى أن غرق غير السلفيين في اعتبار المذهبية يجعل أصول الفقه عندهم كما هو عند أسلافهم علماً نظرياً لا تطبيقياً.
وهذا المقال ما هو إلا عُجالة وإلا فإن الحديث في هذا يطول ويتفرع ؛ وزبدته أن من يتطاولون على أتباع منهج السلف مُدلين عليهم بأصول الفقه أقل الناس حظاً من الأصول الذي هو برمته علم سلفي، وحسب السلفيين اليوم أن يصلحوا منه ما أفسده غيرهم بخلطه بعلم الكلام الذي يعد الشافعي وهو مؤسس العلم من أكثر من حذر منه ومن أهله، فليته- رحمه الله- اطلع على ما أفسد أصحابه بعده.