في روايته الرائعة (نهر الزمن) يسرد الروائي الصيني «يو هوا» وباحترافية عالية ذكريات بطل روايته «سون قوانغ لين» وأحداث طفولته ما بين الريف والمدينة دون أي ترتيب للأحداث، وببراعة لا حدود لها وتنقل سلس بين الأحداث والمواقع.

رسم لنا الكاتب صورة معبرة عن إرادة الشعب الصيني وروح الفلاحين في الأرياف، ومقدار المعاناة والفقر اللذين يكابدهما أبناء القرى الصينية، ولعل العلاقة الجدلية بين أبناء القرية والمدينة قد ضمنها بوعي أو دون وعي كاتب الرواية «يو هوا».

يقول الكاتب على لسان بطل الرواية: «بدأ أخي الأكبر في الاختلاط بأبناء المدينة بعدما التحق بالمرحلة الثانوية بفترة قصيرة، وتزامن مع ذلك، فتور علاقته بأبناء القرية بمرور الوقت. ومع استمرار زيارات زملائه من أبناء المدينة إلى بيتنا، كان والداي يشعران بالفخر، بل حتى إنهما قطعا علاقتهما ببعض كبار السن في القرية، معتقدين أن أنجب طفل في القرية هو أخي الأكبر».


تعبر كلمات بطل الرواية فعلا، عن العلاقة الشائكة بين الريف والمدينة، وصعوبة التكيف الثقافي التي يعانيها المهاجر من الريف تجاه المدينة بسبب تعارض طرائق الحياة والقيم بين الريف والمدينة التي يفرضها نمط الاقتصاد المختلف بينهما،وصعوبة التكيف وضعف الاندماج النسبي لا يشعر بهما ساكن المدينة.

فالمهاجر الذي نشأ في الريف وفق أنماط سلوك معينة في مجتمع يتكون من تضامن أفراده داخل إطار من الروابط القائمة على مبدأ العائلة أو العشيرة أو القبيلة.

وإذا قلنا إن المدينة عبارة عن «سوق ضخمة» فإنها تمارس ضد العلاقات الاجتماعية الريفية أنواعًا متعددة من الإكراهات لأن المدينة تصنع المجتمع وفق تقسيم العمل عبر إطار اجتماعي قائم على المصلحة والمنفعة.

يشعر المهاجر من الريف إلى المدينة بصعوبة تكيف نسبية، تختلف من شخص لآخر، قد تصل عند بعض الأفراد لمشاكل نفسية واجتماعية عميقة، ومشاكل التكيف والاندماج في ثقافة المدينة قد يعاني منها المهاجر بقية حياته في المدينة، يقول يو هوا على لسان بطل روايته: «بدا واضحا أن أخي الأكبر من بين أبناء القرية الذي تلقى مثل هذا التنبيه للقبول بالأمر الواقع، حيث بدأ يشعر أنه لن يكون مثل أبناء المدينة طيلة حياته، كانت هذه هي مشاعره الأولية تجاه شعوره الداخلي بالنقص».

يعاني الأخ الأكبر لبطل الرواية من عقدة اجتماعية يعانيها أي فرد يخرج من مجتمع إلى مجتمع جديد، وصراعات داخلية ممتدة لعجزه عن التكيف في المجتمع الجديد، هذه الصراعات الداخلية لا يشعر بها الفرد الذي نشأ وترعرع داخل المدينة وتشرب ثقافتها الاستهلاكية، لذلك هو لا يعيش الصراع الثقافي الذي يعانيه المهاجر من الريف أو القرية.

وبما أن سرعة الاندماج وسهولة التكيف تتفاوت من شخص إلى شخص فإنها قد تصل عند بعض الأشخاص إلى عزلة وإحساس بالنفي. وفي سبيل تفادي الشعور بالنفي أو العزلة فإن المهاجرين يتبعون بعض الإستراتيجيات الاجتماعية التي تقلل من وطأة العزلة أو الإحساس بالنقص من خلال نقل ممارساتهم وسلوكياتهم في الريف إلى المدينة، وهو شكل مادي للصراع الثقافي، أو بمعنى آخر هو صورة لفشل عملية التكيف والاندماج داخل مجتمع المدينة.