يعتبر تدريس التفكير الناقد في التعليم العام إحدى أهم التجارب المؤثرة في نوعية المعرفة التي يتلقاها المتعلمون. وعلى الرغم من أن التجربة لا تزال في بداياتها فإن ثمة ملامح يمكننا تأملها والنظر فيها.

في مقدمة الكتاب المقرر يأتي الحديث شيقا عن التفكير الناقد كأحد المشارب الإنسانية التي حان للمتعلم أن ينهل منها بعد أن تمكن من المهارات الأساسية كالقراءة والكتابة والحساب.

ويظهر جليا أن هذا الربط في حد ذاته منطقي جدا. فالتفكير فعل تراكمي يبدأ بتلك الدهشة التي تتملكنا حينما نرى الحياة للمرة الأولى وما يرافقها من تساؤلات وخيال ورغبة في استخدام حواسنا وتجربة مشاعرنا.


هكذا يتموضع العقل ويبني المواقف الفكرية التي تتشكل حولها حياة الإنسان. وهكذا نصبح ما نحن عليه. نحن إذاً نتاج تجربتنا العقلية. وهنا تكمن أهمية تدريس التفكير الناقد بشكل ممنهج وتدريجي حتى ينمو لدى المتعلم عقل ينفر من تعاطي المعلبات الفكرية المخزنة منذ عصور ويتمكن ذاتيا من خلق رؤيته الفلسفية الخاصة.

كذلك، فإنني أجد للتوقيت أهمية أيضا، فالجيل الحالي ينشأ بين مرحلتين فكريتين تختلف معالمهما اختلافا تاما، فهو جيل يخرج من حقبة فكرية منغلقة انصهر فيها التفكير الجمعي طويلا في القوالب النمطية الضيقة، لدرجة كنا نرى فيها حملة المؤهلات العلمية الرفيعة يطلبون فتوى المشايخ في أبسط مسائل الحياة، إلى مساحة رحبة من اتساع الأفق وزيادة الممكنات وارتفاع مؤشرات التواصل بين المجتمعات الإنسانية حول العالم. وهي بلا شك مرحلة تأتي باحتياجات فكرية ونفسية مختلفة، مما يجعل هذا الكتاب أشبه بدليل إرشادي معرفي وسلوكي بين يدي هذا الجيل يتعلم من خلاله كيف ينقد الفكرة، وكيف يبني الخطاب، وكيف يتعامل مع الشك والحقائق والفهم البشري والإدراك الواعي.

التجربة في رأيي إيجابية في مرحلتها الأولى ولا ينقصها سوى مزيد من التأهيل للمعلمين مع تطوير أكثر للمحتوى العلمي، إضافة إلى ضرورة إدراج الكتاب ضمن سلسلة متصلة من مناهج الفلسفة لتشمل كل مراحل التعليم العام والجامعي حتى تكتمل لدينا منظومة فلسفية منهجية ذات كيان واضح المعالم.