إن تبني نظرية الفيض الإلهي، إحدى بقايا المعتقدات والأساطير اليونانية القديمة، وجعلها مرجعية فكرية للمثقف، كفيل بإخراج هذا المثقف من دائرة التنوير والعقل بكل بساطة مهمًا كان اسمه أو مكانته الفكرية. فنظرية الفيض التي تحدثنا عنها في مقالة سابقة، نظرية ساذجة في حقيقتها حتى إن ظهرت بمظهر التعقيد والعمق، وأصحاب هذه النظرية لم يكن في استطاعتهم البرهنة على صحتها بطريقة عقلانية، بل كانوا يقولون بها وكأنها وحي منزل. فقد كان أنصارها ومؤيدوها يؤمنون بها بشكل دوغمائي بعيد كل البعد عن أي مظهر من مظاهر العقلانية.

يتمتع ابن سينا، أحد رواد نظرية الفيض في الحضارة العربية، بمنزلة مرموقة وصورة نمطية تضعه في خانة العقل والتنوير، وتجعل منه رائدًا في مجال العلم والطب، مع أن أسطورة الفيض كان لها أثرًا في نشاطه العقلي وكانت محركًا بارزًا لكثير من أفكاره، فقد حاول ابن سينا في رسالته النيروزية أن يوفق بين مبادئ الإسلام ومعتقدات اليونان الدينية، لدرجة أنه حاول تفسير فواتح بعض السور القرآنية بواسطة نظرية الفيض، وهذا بلا شك تفسير غريب وبعيد كل البعد عن روح الإسلام، ومهما حاولنا الدفاع عن ابن سينا فإننا نعجز عن إيجاد تبرير لتبنيه نظرية الفيض بهذه الطريقة.

فارتباط ابن سينا بهذه الأسطورة يفرض علينا إعادة النظر عن كل ما قيل عنه، ويفرض علينا التشكيك بتلك الصورة الزاهية المنقولة عنه.


إن نظرية الفيض فضلًا عن استحالة تقديم براهين عقلية ومنطقية لها، فهي تتعارض من النظرية الإسلامية الأصيلة التي تقول بالخلق المباشر للكون والخلق من العدم بدون وسائط بين الله والعالم كما تقول أسطورة الفيض، ولا يمكن بأي حال التوفيق بينها وبين تعاليم الدين الإسلامي ونصوصه المقدسة.

وكتاب ابن رشد الشهير (تهافت التهافت) تضمن نقاطًا عديدة للرد على آراء ابن سينا ونقدها بل إنه يتهم ابن سينا صراحة بسوء الفهم لأقوال أرسطو، يقول ابن رشد معلقًا على نظرية الفيض لابن سينا والفارابي ومعترضًا عليها: «إن في هذه النظرية تناقضًا خفي على ابي نصر وابن سينا لأنهما أول من قال بهذه الخرافات، فقلدهما الناس ونسبوا هذا القول إلى الفلاسفة».

تحديد موقفنا من ابن سينا يتطلب قبل أي شيء تحديد موقفنا من نظرية الفيض، هل هي أسطورة دينية أم نظرية فلسفية عقلانية محايدة غير مرتبطة بأي معتقد ديني، ولا تتصادم مع أي شريعة سماوية أو أي تفكير عقلاني؟ كثير من الصراعات الفكرية بين المفكرين العرب كابن رشد والغزالي وابن تيمية تمحورت حول نظرية الفيض بشكل مباشر أو غير مباشر، هذا الصراع الذي سببته نظرية الفيض قسمت التيارات الفكرية في الأوساط الثقافية العربية إلى قسمين متنافرين كلاهما يعبر عن الضد بالنسبة للآخر، هناك فلاسفة يجسدون قطب العقلانية والتنوير، وهناك فقهاء يجسدون قطب الظلامية والانغلاق، ذنبهم الوحيد أنهم أنكروا نظرية الفيض ورفضوها رفضًا قاطعًا. وفي الطرف المقابل صار من يتبناها ويؤمن بها يملك تصريح الدخول لعوالم الفلسفة ويصبح بطلًا من أبطال حكاياتها الفنتازية التي يلعب الخيال دورًا مهمًا في تجسيد شخصياتها وصناعة بطولاتها الوهمية.