وكما أسلفنا في مقالات سابقة فإن الفلسفة الغربية -أوروبية كانت أو يونانية- ليست في حقيقة الأمر سوى المقابل المعرفي للفقه الإسلامي العربي، والفلاسفة الغربيون هم فقهاء أوروبا واليونان، وغالب نتاجهم الفكري يصب في الرغبة في فهم النصوص المقدسة والمعتقدات الدينية التي يؤمنون بها.

إن كثيرا من فلاسفة أوروبا درسوا في طفولتهم بمدارس ذات توجهات دينية صارمة، وبالتالي لا يمكن فصل فلسفتهم ذات المكون الديني عن النصوص المقدسة التي تمثل مرجعية دينية لهم.

ارتباط الفلسفة بالأديان لا يخدمها في عصر مجتمع السوق الاستهلاكي الذي تحولت فيه أغلب الأنشطة الإنسانية إلى رأس مال يولد الثروة، فلا يوجد أي نشاط بشري اليوم يستطيع الإفلات من تأثير عالم المال والأعمال ممثلا في مجتمع السوق العالمي.


وهذا ما يجعل الفلسفة اليوم تحاول أن تتبرأ من تاريخها الديني وتقدم نفسها في صورة محدثة تخفي في أحشائها مكوناتها الدينية وجذورها اللاهوتية. وبكل ذكاء أخذت تربط نفسها قسريا بالتفكير الناقد والتسامح الديني، بعد أن أخذت ظاهريا موقف الحياد من كل الأديان والكتب السماوية.

كيف يمكن أن تستفيد الفلسفة من الارتباط بالتفكير الناقد والتسامح الديني في عصر يرتبط أفراده آليا بتأثير من علاقات الإنتاج؟

في الحقيقة لا يوجد أي علاقة سببية بين التفكير الناقد والفلسفة، فالتفكير الناقد ليس نتيجة للفلسفة، والفلسفة ليست نتيجة للتفكير الناقد.

ولكن التفكير الناقد في العصر الحديث يخدم الفلسفة، لأنه بالإمكان تحويل مفهوم التفكير الناقد إلى منتجات دراسية تباع في سوق العمل، وتحديدا للأطفال في المراحل الدراسية المبكرة. فالفلسفة -كما يوهمنا أنصارها- سوف تمنح طفلك سر التفكير الناقد وتجعل منه فيلسوفا صغيرا.

سوف يتكون هنا كتب تباع في السوق لتعليم طفلك أسرار التفكير الناقد، ودورات دراسية برسوم مالية تمنح الطفل روح التسامح وتعلمه كيف يفكر تفكيرا نقديا، وسوف تعقد ندوات ومؤتمرات دولية لتعريف الناس بالأسرار الخفية للتفكير الناقد التي ستجعل من طفلك نابغة عصره، بعد أن يدخل عالم الفلسفة الرحيب والمتسامح.

سمعت أحد المختصين الغربيين بالفلسفة مؤخرا، يقول بأن الفلسفة سوف تجعل الأطفال يحبون الخير ويكرهون الشر، ويبحثون عن السعادة ومحبة الآخرين. وآخر يدعونا لمشاهدة تلاميذه الصغار في اليوتيوب، وهم يتحدثون بلسان أفلاطون وأرسطو، يتكلم هذا المحاضر متباهيا لأنه صنع من هؤلاء الأطفال فلاسفة صغارا.

وهو هنا يقوم بتسويق خدماته الجليلة للحضور الكريم، فإذا أرادوا أن يصنعوا من أطفالهم فلاسفة صغارا، فما عليهم إلا المسارعة بالتسجيل، فالمقاعد محدودة وبالإمكان تقديم الدورات من وراء المحيطات لطفلك النجيب.

يتحدث أنصار الفلسفة اليوم بلسان مندوب المبيعات، بعد أن ربطوا الفلسفة بالتفكير الناقد والتسامح، وجعلوا منهم أقانيم لا تنفك عن بعضها البعض، وهذا يجعلنا نتساءل عن العلاقة التاريخية بين الفلسفة والطفولة، فالفلسفة ومنذ عصور اليونان القديمة لم تهتم بهذا الاهتمام الكبير بالطفولة، ولم تكن يوما من اهتمامات الأطفال، ونظرة شاملة على أطروحات الفلاسفة الغربيين وأفكارهم مثل ديكارت وإيمانويل كانط وسبينوزا وديفيد هيوم، سنجد ومن منظور تربوي خالص أنها أفكار لا يمكن تحويلها إلى معارف مدرسية دون أن تفقد جوهرها ومكونها المعرفي والديني، أو تتحول إلى شكل من أشكال التلقين.

ارتباط الفلسفة اليوم بالتفكير الناقد والطفولة قادر على ضخ الحياة في جسدها المترهل، ومنحها شيئا من الأهمية والاعتبار، بعد أن وضعها السوق في الهامش عقودا طويلة. فمهارة التفكير الناقد تحظى باهتمام كبير من المختصين في المؤسسات التعليمية، وتمثل حاجة ضرورية في مراحل التعليم وصناعة الخدمات التربوية، لذا كان الارتباط بالتفكير الناقد يمثل نوعا من انتهاز الفرص لدى أنصار الفلسفة المتعصبين لها.