قبل الحديث عن فتح مصر، وهل يصنف ضمن إطار الفتح والتحرير، أو أنه يصنف ضمن حالات الغزو والنهب والاحتلال، يجب علينا أولا أن نلقي نظرة على حكام مصر قبيل الفتح الإسلامي، وهل كان الشعب المصري يعاني الطبقية، ويوضع في خانة العبيد مقابل السادة الرومان واليونان؟ أم أنهم عاشوا على قدم المساواة مع الشعوب الرومانية واليونانية، ونعموا بالتسامح والتعايش السلمي، وهل عاشت المسيحية في ظل الحكومة الرومانية في حالة استقرار مع الأديان الوثنية الرومانية؟

أسئلة كثيرة تدور حول الحكومة الرومانية التي حكمت مصر قرونا طويلة، وكثير من الفلاسفة الأوروبيين، تحدثوا عن مزاج الشعوب الرومانية وحكامهم، التي في أغلبها تعكس صورة سوداوية عن أوضاع الشعب المصري، والمسيحي -على وجه الخصوص- في ظل الحكومة الرومانية المستبدة، وأحد أهم الفلاسفة الأوروبيين وأبرز رموز التنوير، الذين كتبوا عن طبيعة الدولة الرومانية، هو الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو، في كتابه الغني عن التعريف «تأملات في تاريخ الرومان». فقد طرح في كتابه صورة شاملة عن الدولة الرومانية وحكومتها ومزاجها العقلي.

في الفصل السادس من الكتاب الذي يحمل عنوان «السياسة التي انتهجها الرومان لاستعباد سائر الشعوب»، في هذا الفصل وصف مونتسكيو المنهجية المتبعة عند الحكام الرومانيين في تعاملهم مع سائر الشعوب، ولا شك أنها كانت منهجية في غاية البشاعة، ولا أظن أن هناك شعبا مهما كانت ديانته أو عرقه أو ثقافته، يقبل بالعيش ليوم واحد في ظل دولة تحمل هذا القدر الهائل من الاستبداد والظلم والغدر، وسوف أطرح هنا بعض المقتطفات من هذا الفصل، في وصف مونتسكيو للدولة الرومانية ومنها: «يستخدمون الحليف لقتال العدو ثم دون تهاون ينقلبون عليه ويدمرونه»، «كلما واجهوا عدة أعداء صالحوا الأضعف، الذي يسعد بإمهاله وإرجاء ساعة هلاكة»، «وبما أنهم كانوا يلحقون بأعدائهم أضرارا تفوق كل تصور، لم تتحالف ضدهم الشعوب الأخرى، إذ البعيد لا يود أن يقترب منهم فيكوى بنارهم»، «لم يبرموا أبدا صلحا ليدوم، بما أن هدفهم البعيد هو الاستيلاء على كل شيء، لم يروا في أي صلح سوى هدنة، لذلك كانوا يفرضون شروطا تؤدي لا محالة إلى دمار الدولة التي تقبلها».


هذه المقتطفات من كتاب مونتسكيو، تعبر بالفعل عن بشاعة هذه الدولة، وأجزم أن الشعب المصري لم يكن ينعم بالاستقرار في ظلها، فقد كان المسيحيون في مصر يقدمون القرابين للمعابد الرومانية، ومن يرفض تقديم القرابين يتعرض للإهانة والتشهير والتعذيب، وفي بعض العصور الأشد ظلما كان الإمبراطور الروماني يأمر بهدم الكنائس وإحراق الكتب المقدسة، ومعاقبة كل من يتمسك بدينه بالنفي أو القتل أو الرق.

في كتابه «مصر والعرب عبر التاريخ» يقول محمود توفيق حفناوي: «كان اضطهاد المسيحيين في مصر أشد منه في بقية الإمبراطورية الرومانية, ولذا فر الكثيرون من نصارى مصر إلى الشام، حيث كانت معاملة المسيحيين أقل قسوة وعنفا».

كثير من المراجع التاريخية نقلت ما لا يحصى من القصص المروعة، التي تحكي معاناة المسيحيين من القتل والتعذيب، بطرق غاية في البشاعة والقسوة، بشكل لا يتصوره عقل، حتى عمت الديار المصرية موجة عارمة من حب الاستشهاد، في سبيل الحفاظ على عقائدهم الدينية ورفض تقديم القرابين لآلهة الرومان وإمبراطورهم، فقد كانت دماء الشهداء المسيحيين هي البذور، التي نبتت وترعرعت عليها الديانة المسيحية في مصر، وهذا ما جعل الشعب المصري يكره حكامه في ذاك الوقت، ويجعلهم يتعاطفون مع خصوم الحكومة الرومانية وكل من يناوئها.

عاشت مصر أوقاتا قاسية في ظل الدولة الرومانية، والقبط أنفسهم عانوا أشد أشكال الاضطهاد والتنكيل، ومثل هذه الظروف القاسية هيأت الطريق للفتح الإسلامي، وأصبح شخصية كعمرو بن العاص يعامل معاملة الفاتح والمحرر، ولم ينظر له الشعب المصري بصفته مصدرا للتهديد أو ضياع الأمن، بل إن دخول عمرو بن العاص فاتحا يعتبر بداية الاستقرار، والهدوء والعيش الآمن، وبداية خلاص المصريين من ذلك البطش والتنكيل. وهذا ما جعل البطريق بنيامين يسمي عهد العرب بعهد السلامة والأمان، حيث كان هاربا في الصحراء بسبب اضطهاد الرومان لأبناء شعبه، لم تشهد مصر قيام ثورات مضادة للفاتح الجديد، ولم تشهد نشوء حركات شعوبية شبيهة بالحركات الشعوبية، التي ظهرت في أمصار أخرى، ولم يتعرض الشعب المصري لأي عملية تصفية عرقية أو دينية.

كان دخول عمرو بن العاص فاتحا بداية لعصر التسامح الديني في مصر، ومدينة الفسطاط التي بناها عمرو بن العاص في منطقة مصر القديمة، تمثل مجمعا للأديان السماوية الثلاثة ويستطيع الزائر لجامع عمرو بن العاص اليوم أن يكتشف المسافة البسيطة، التي تفصله عن الكنيسة المعلقة وبعض المعابد اليهودية، في منطقة تسمى اليوم بـ «ملتقى الأديان»، فقد أسس عمرو بن العاص مسجده الشهير في منطقة مكتظة بالكنائس والمعابد اليهودية، ولم يهدم الفاتحون الجدد للمسيحيين كنيسة أو ديرا، ولم يؤذوا راهبا أو قسيسا، بل إن عمر بن الخطاب ضرب عمرو بن العاص وابنه حينما اعتدى ابن عمرو بن العاص على أحد الأقباط، وقال كلمته الشهيرة: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا».