للسوق العالمي تأثير عميق في حياتنا الاجتماعية وعاداتنا الثقافية، فهو يملك بنية اجتماعية وثقافية تحتية وضمنية مخفية، تحدد سلوكنا اليومي ونظرتنا للحياة. هذا التأثير الثقافي والاجتماعي للسوق موجود مع أنه غير مرئي وغير ملموس، ونستطيع أن نتلمس شيئًا من تأثير السوق الحديث في حياتنا اليومية من خلال قدرته الهائلة على تحويل كل شيء حولنا إلى رأس مال يولد الأموال ويخلق الفرص. ولا يكاد يخلو مكان في العالم اليوم من وجود مستثمرين أجانب يملكون القدرة والحماسة على اعتصار الربح من كل شيء تقريبًا، بعد تحويله إلى رأس مال ونشاط اقتصادي حي.

الغريب في عالم السوق العالمي الحديث أننا نأخذ آلياته وحركته الضمنية في حياتنا بشكل بديهي إلى حد أننا فقدنا كل إحساس بوجوده وبتأثيره البالغ في علاقاتنا الاجتماعية. ولعل الأمومة تعد واحدة من أهم الأنشطة الإنسانية السامية التي طالتها يد السوق وحولتها إلى نشاط اقتصادي يدر الأرباح الطائلة، وتطبق عليه كل قوانين السوق. فمن يصدق أن هناك شركات كبرى حول العالم تختص بحضانة الأطفال وتربيتهم والاهتمام بهم لمدة تتجاوز ثماني ساعات يوميًا، وهناك شركات لاستقدام العاملات وجليسات الأطفال المتفرغات للعناية بالطفل طوال مدة غياب والديه وانشغالهما بأعمالهما في سوق العمل. ومن يصدق أن الأمومة نفسها تحولت إلى خدمة تعرض في سوق العمل ودونها سيتحول نظام المنزل إلى فوضى ويفقد توازنه وقدرته على العيش بصورة شبه طبيعية. بل إن ضيق الوقت الذي يعاني وطأته العاملون والعاملات في سوق العمل سيضيق خناقه أكثر وأكثر.

للسوق الحديثة القدرة الهائلة على خلق الحاجات، ولا أحد ينكر اليوم الحاجة الماسة والضرورية لدور الحضانة والعمالة المنزلية التي بدونها يعتبر عمل الأب أو الأم أو كلاهما معًا في سوق العمل أشبه بالمستحيل، وبعض الدول تقدم تغطية شبه تامة لمصاريف روضة الأطفال ودور الحضانة، لذا تحولت الأمومة لنشاط اقتصادي يدر الأموال. فهناك شركات متعددة الجنسيات لتقديم خدمات الحضانة، بل هناك سوق سوداء في كل دول العالم لتقديم خدمات الأمومة. فكما نعلم أن الهجرة البشرية هي العامل الرئيس للنمو المدني، وأحيانًا الهجرة تكون غير نظامية، وهنا قد يتحول المهاجرون إلى شحاذين أو محتالين أو مشردين أو باعة متجولين وباعة على الأرصفة أو لصوصًا تكتظ بهم المدينة ويخلقون لهم سوقًا جانبية. هذه السوق الجانبية تمثل تهديدًا للاقتصاد الوطني، ولكنها نتيجة طبيعية لحركة سوق عالمية لها أعراضها الجانبية وأمراضها المزمنة ومشاكلها المعقدة. وكثير من النشاطات الاقتصادية اليوم لها سوق سوداء ومن ضمنها أسواق العمالة التي تقدم خدمات الأمومة وتوفر جليسات الأطفال بشكل مؤسسي. هذه السوق السوداء صنعت أشكالا لا حصر لها من التمييز ونتج عنها آلاف الضحايا من الجنسين.


تقف السوق العولمية الحديثة وحدها اليوم باعتبارها الطريقة العقلانية الوحيدة الممكنة لتنظيم المجتمعات الحديثة، وكل الثقافات القديمة استبدلت بثقافة السوق الاستهلاكية، وسلوك البشر حول العالم أصبح منمطًا ضمن ذوق وثقافة عالمية موحدة، وأي معتقدات دينية أو أعراف ثقافية تقف ضد حركة السوق ستبدو مستهجنة وغريبة. فالسوق العالمية اليوم تمارس ضدنا أشكالا متعددة من الإكراهات، بعد أن حولت شعوب العالم إلى مجرد عمال في منظومة سوق شاملة، ونجاح الاقتصاد الحديث يقاس بمقدار توحيده لأفراد المجتمع تحت نظام سوق عالمي موحد، وبمقدار تحويله لمختلف سلوكيات الإنسان إلى رأس مال بعد تحويلها إلى حاجات استهلاكية وأنشطة اقتصادية.

استطاع السوق أن يصنع أشكالا من المساواة الظاهرية بين الجنسين، ويحرر الأيدي العاملة المكبلة بالأرض الزراعية وتحويلها تجاه المدن المكتظة بالسكان، ولكنه في السياق نفسه صنع شكلا جديدًا من الطبقية وعمق كثيرًا من الفروق، فالعلاقة بين الخادمة المنزلية وربة المنزل تتصف بالتراتبية الاجتماعية، بل إن العاملة المنزلية تعامل غالبًا بصورة غير إنسانية. فالعاملة المنزلية لا تشارك أفراد الأسرة مائدة الطعام ولا تشاركهم المناسبات العائلية، ولا ترافقهم لقضاء أوقات الترفيه خارج المنزل. فهي لا تعامل بصفتها فرد من أفراد العائلة، وبالمجمل العاملة المنزلية تعمل تحت ظروف عمل غير إنسانية. والسوق العالمية بطبيعة الحال مسؤولة عن نشأة تلك العلاقة الطبقية بين ربة المنزل والعاملة المنزلية، ومسؤولة كذلك عن معاناة آلاف العاملات المنزلية حول العالم.

العلاقة الطبقية بين ربة المنزل والعاملة المنزلية هي أحد الإفرازات السلبية التي خلقتها السوق، فعلاقات العمل هنا وإن كانت تجري ضمن عقود عمل ولكنها تتضمن أشكالا غير إنسانية من العلاقات الاجتماعية لا تتسم بالمساواة، والسوق تقف موقف المتفرج تجاه هذه العلاقات غير الصحية المنتشرة في أغلب دول العالم. هذه العلاقة الطبقية ضرورية بالنسبة لسوق العمل، وتحويل الأمومة لحاجة استهلاكية ونشاط اقتصادي ضروري له، أو أن الأم العاملة في سوق العمل ستضطر لترك عملها كي تحضر طفلتها المريضة من الروضة، أو تتخلف عن اجتماع مجلس الإدارة لأنها لابد أن ترضع وليدها. وتحقيق التوازن بين العمل والمنزل سيصبح ضربًا من المستحيل دون تحويل الأمومة إلى نشاط اقتصادي يرضخ لكل قوانين السوق ومفاهيمه.