صديق محب من طهران، عاصمة الديكتاتورية الإيرانية، تتخذ عائلتُه أحد الألقاب التي تَعنِي الانتساب إلى آل البيت، ليكون بهذا الانتساب ذا قَرَابَة مع كثير من المراجع والعائلات، التي أصبحت بنسبها بعد الثورة الخمينية الصفوية تُشَكِّل طبقةَ أحفاد الأئمة المعصومين، والذين وَفقَ الموروث الصفوي يحملون الكثير من صفاتهم، التي يزعمها لهم الغلاة فيهم، فـ«السيد» عند الصفويين له كرامات أكثر من كرامات الرسل والأنبياء والأولياء، فبإمكانه أن يخرق الفيزياء الكونية لأي غاية في نفسه، وله طهارة ذاتية يستطيع أن يُجرِيَها على سواه ممن يُحب. كما أن له قدرة على الإضرار، ويُمكِنه أن يؤثر بها على من يكره. وإذا كان هذا «السيد» من أصحاب العمائم، فإن سلطاته تتسع لتصل إلى حدود القدرة على التواصل مع «الإمام الغائب» المزعوم، بل القدرة على التواصل الشخصي مع الله - عز وجل - فيوصل إليه شكاوى الناس وتظلماتهم، ويُسهم في حلها معه - تعالى الله عمّا يشركون علوا كبيرا-. صديقي هذا، كغيره الكثير من الشباب الإيراني المثقف ثقافة عصرية، لم تتقبل فطرتُهُ ولا ضميرُه هذه الخزعبلات التي عاش الفكر الصفوي عليها قرونا، مقتاتا على جهل المجتمعات التي يعمل قادتُها على ترسيخ التجهيل فيها، كي يبقى نفوذُهم وهيمنتهم، فلا حياة للمنتفعين بالجهل إلا ببقائهم، لتبقى لهم النذور والأخماس والأرباع والأثلاث. صديقي هذا حَاوَل أن يستخدم الفكر الفلسفي، ليُوَفِّق بين الدِّين، الذي ورثه عن آبائه، وبين عقله وفطرته، كما فعل فلاسفة النصارى واليهود حين وجدوا أنفسهم في حاجة إلى الفلسفة، ليوهموا أنفسهم بتوافق أديانهم المحرفة مع العقل، لكن الفلسفة أيضا فشلت في إقناع صديقي بأن الأفكار الصفوية يمكن أن تكون دينا مُنزلا من الله الحكيم العليم، كما فشل سابقوه، من فلاسفة اليهود والنصارى، في التجربة نفسها. أجال صاحبي النظر في المذاهب الإسلامية، فلم يجد أوفق وأقرب للعقلِ، وأحرى أن يكون هو دين الله المُنزل، من مذهب أهل السنة والجماعة، فتحول إليه، لأنه وجد فيه حلول كل المشكلات العقلية والروحية التي كان يعانيها إبان اعتناقه الدين الصفوي، واستغنى به عن كل ما قرأه من فلسفات، وأعلن ذلك لعائلته وزوجته، فغضبوا منه وأنكروا عليه، وأبلغوا عنه السلطات، فاضطر إلى ترك وطنه، والهروب إلى أصقاع الأرض المعمورة، متنقلا بين عددٍ من الدول. في هذه الأثناء، رفعت عليه زوجته دعوى تطلب فيها «المخالعة»، أي أن تدفع له عوضا مقابل فسخ النكاح، ولكن المحكمة الإيرانية الصفوية تجاوزت هذا الطلب، وحكمت بفسخ النكاح بالفعل، ولكن بسبب آخر غير «الخُلع»، وهو الرِدة عن الاسلام، فالقانون الإيراني، الذي يزعمون أنه شرعي، يحكم بأن من ينتقل من مذهب الدولة الشيعي الإثني عشري الصفوي يُعتبر مرتدا خارجا من الملة.

وبذلك، أصبح صديقي في نظر القانون الإيراني مرتكبا جناية توجب القتل، وأصبح بهذا الحكم مطلوبا لدى السلطات الإيرانية، لتنفيذ حكم الإعدام بحقه، كونه مرتكبا أكبر جريمةٍ يمكن أن تنسب إلى مسلم، وهي الردة من الإسلام.

هذا هي نقطة الارتكاز في مقالنا، فالسلطات الإيرانية، التي ترفع شعار «جمع كلمة المسلمين»، وتُقِيم مؤتمرات التقريب بين المذاهب، التي خَدَعَت بها عشرات من رموز الصوفية، ومن الحزبين المنتسبين للسنة، والعشرات من الليبراليين من أبناء أهل السنة، هي عينها من تحكم بالكفر الموجب للقتل على كل مسلم لا يعتنق مذهبها، ومن ضمنهم بكل تأكيد أولئك الذين تُقَدَّم إليهم الدعوات لحضور هذه المؤتمرات.


هذه المعلومة، وأعني بها إطلاق حكم «المرتد» على من غَيَّر مذهبه، ليصبح سنيا، وعلى الرغم من شهرتها، ووجودها صراحة في الفقه القانوني الذي تُحكَم به إيران، لا يزال يتعامى عنها أولئك الذين تستهويهم إيران وفكرُها الصفوي، ولا يزالون يزعمون أن هذه الدولة الخبيثة تدافع عن قضايا المسلمين ومقدساتهم ودمائهم، ولم يفكروا أن يسألوا أنفسهم: كيف تكون كذلك وأهل فلسطين الذين تزعم مدافعتها عنهم كُفَّار بموجب قانونها الرسمي، الذي لم تُغَيِّره، بل لم تحاول تلطيف عبارته أو الإتيان بمادة يمكن بها التملص عند الحاجة من معناها بدلا من الجزم القاطع بـ«الردة»؟!، ثُمَّ تأتينا مثل حركة «حماس» الفلسطينية، وعدد من قطاعات جماعة «الإخوان المسلمين»، ليحاولوا إيهامنا بأنها تفعل ذلك حقا.

وكذلك يأتينا الكثير من الليبراليين والليبروإسلاميين ويُصِرُّون على أن المشكلة ليست في الفكر الصفوي وأصوله ومصادره، وإنما في سياسة الملالي، فالمشكلة، بزعمهم، ليست عقديةً، وإنما سياسيةٌ محضة، وهم إذ يقولون ذلك ويكتبونه لا يجهلون، وإنما يتجاهلون بكل صفاقة أدبيات أصول الفكر الصفوي، التي لم تعد مُخبأة في بطون الكتب، وإنما معلنة، ويجدها من أرادها في عدد من المواقع العلمية التابعة لمؤسسات علي السيستاني الثقافية. وقد جمعها عدد من الباحثين، وصوروها من أصولها، ومنهم عبدالملك الشافعي، وهو اسم رمزي لأحد المرتدين حسب القانون الإيراني، حيث رمز لاسمه حذرا من أن يُنفذ فيه حكم «الردة» غِيلَةً، كما كان أجداد الصفويين من جماعة «الحشاشين» يفعلون.

وعلى ذكرنا لليبراليين والليبروإسلاميين، فإنني لا أُبالي أن أقول: إن كثيرا منهم بتجاهلهم منطلق العداء التكفيري في الفكر الصفوي، كانوا وما زالوا وراء اختراق عدد من حَمَلَة العقيدة الصفوية بعض منصات الإعلام الخليجي، وهو الاختراق الذي جعل دُوَلَنا الست طيلة ثلاثة وأربعين عاما هي المهزومة في الساحة الإعلامية، وساحة إدارة الرأي العام العالمي في مواجهة الإعلام الإيراني، وربما كان إعلامنا الخليجي في بعض المواقف سندا للإعلام الإيراني ضد دول الخليج والسعودية بشكل أخص.

وكذلك أقول عن الليبراليين والليبروإسلاميين إنهم أيضا سبب لتغلغل الاقتصاديين الصفويين، من إيرانيين ولبنانيين، في الاقتصاد الخليجي، مع تشرفي بأن السعودية ربما تكون وحدها من بين الدول الست التي نجت من هذا التغلغل في اقتصادها.

في النهاية.. يجب تأكيد أنه حان الوقت للتعامل مع الدولة الصفوية من منطلق أن الإيرانيين لا ينظرون إلينا إلا باعتبارنا مرتدين خارجين من الملة مستحقين للقتل، وليس ما يحدث منهم في العراق وسورية واليمن من إبادة، لم تتوقف منذ 2003 وحتى اليوم، إلا من منطلق عقدي، والسياسة الإيرانية ليست مصلحية، كما هو الشأن في غالب السياسات المعاصرة، وإنما ذراع للفكر العقدي الصفوي، الذي لا يبالي بأي خسائر مادية وبشرية في سبيل إنفاذ مشروعه العقدي.

يؤكد ذلك أن الفرد أو الأسرة الإيرانية لا تزال، وستبقى، في آخر سلم أولويات الإستراتيجية الإيرانية، وها هي انتفاضة سكان «أصفهان» المستعرة الآن تشهد بذلك. كما تشهد انتفاضات الشعب الإيراني، وآخرها التي تشتعل الآن بما ذكرتُه من الاختراق الصفوي للإعلام الخليجي، حيث لا تحظى هذه الانتفاضات في الإعلام الخليجي بالتغطية المناسبة لها، بينما يذكر هذا الإعلام - كله - دبيب النمل حين يحصل في بلادنا.

وللتذكير، ليس القتل ردةً مقصورا على أحكام جزائية في حالات فردية كحال صديقي، الذي افتتحت بقصته المقال، وإنما هو فكر مستقر في الإستراتيجية الإيرانية، يواجَه به كل من يُشك، مجرد شك، في تحوله لمذهب أهل السنة، والمشانق التي تعلق كل يوم في «الأحواز» على الرافعات علانية، وفي الميادين، شاهد حاضر على ذلك، ومجزرة سجن طهران في 1986 و1988، التي ذهب ضحيتها ما يزيد على أربعين ألفا من البشر، بإشراف رئيس إيران السابق، آية الله روحاني، شاهدٌ قديم.

إن هذا النظام حقا لا يستحق البقاء في عالم معاصر، أو في أي عالم ينشد السلام والنمو والرفاه لشعبه، والشعوب من حوله.