الهزيمة النفسية أو الانهزام الحضاري أو الشعور بالنقص اسم لمسمى واحد تقريبًا يُطلق على ما يَظهر على البعض من تصرفات، أو طرحهم آراء تُقَدِّمُ رسالة للمتابع بأنهم غير منتمين لواقعهم الأخلاقي أو الديني أو الثقافي أو الاقتصادي أو الاجتماعي؛ بل توحي بأنهم يعيشون في أزمة شديدة بين الواقع وبين فقدانهم القناعة به، فتجد هذا المأزوم يبذل قصارى جهده إلى حد التكلف واستخدامِ الطرق المموجة ليَبْدُوَ وكأنه ناقم على جهةٍ ما من جهات واقعه التي ذكرناها، ومُختلِف معها، وربما يتعمق معه هذا المرض لينقِم على كل ذلك الواقع، فهو مرض كسائر الأمراض له تدرجاته، فمنها اليسير غير المؤثر كثيرًا، ومنها ما يصل بصاحبه إلى الجنون أو الإلحاد ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ فنوعٌ من المثقفين المصابين بهذا المرض يحرص على عدم الانقطاع عن الظهور بكتاب أو مقالة أو لقاء إعلامي، لا ينتقد فيه دين وثقافة مُحيطه وحسب بل يحاول نقضهما بالكلية عبر اختيار أصل من أصولهما أو مُسَلَّمَة فيهما ليُثبِت بزعمه عكسها، ولا يكون ذلك زَلَّة منه لِمَرَّة واحدة فيُبَيَّنُ له خطؤه ويُنصح عن هفوته، ولكنه يجعل هذا الأمر ديدنه الذي لا يَنْكَف عنه ؛ لأن هذا الداء يجعل صاحبَه شديدَ الوَلَع بمصادمة الناس كثيرَ التعلق بإثارتِهم وإغضابهم، لأن هذه الإثارة هي وحدها مصدر وجوده ولمعانه في عالم الثقافة، فهو دون هذه الموضوعات لن يكون مادةً للصخب والنقاش والنقد، وإنما قصارى ما سيكون عليه دون هذه الموضوعات أن يوصف بكونه مثقفًا أو مُطَّلِعًا أو طالب علم وحسب كملايين من الناس سواه، وهذا ما لا يُرضِي الآكِلَة أو الحَكَّة التي يشعر بها داخل صدره، ولا يُبَرِّدُها إلا هجومُ أكبر عدد عليه من المجتمع الغاضب من طَرْحِه، فهو يستأنس بذلك ويتلذذ كما يصنع الجَمَل حين يأكل الغرابُ من جُرحه الذي على سنامه وهو يظن أنه يداوي حاجته إلى الحك؛ ولهذا تجد المريض من هؤلاء مِن حين أن ينشر رأيه المعاكس في كتاب أو مقال أو تغريدة، يجعل منتهى هِمَّتِه متوجهةً إلى الشبكة الرقمية يفتش فيها بشغف عمَّن سَبَّه أو شتمه أو عَنُّفه، وتكون متعته هناك بقدر ما يلقاه من الشتائم، وأكثرُ ما يؤلمه هو الردود الهادئة العلمية، لأنه غالبًا لا يستطيع الرد عليها بما يُقنع القارئ والمستمع، كما لا يستطيع مجاراتِها في الهدوء والثقة، وهذا كما قلتُ: في الغالب الأعم؛ ولا شك أن الردود القاسية العنيفة أو الساخرة ما لم تخرج عن حدود الأدب حين تجيء من عامة الناس لها فوائدها الكبيرة لأنها تُظهر مدى ممانعة المجتمع المستهدف على ما هو عليه من القِيَمِ والأفكار والآداب، وكذلك فالردود المجتمعية قد تؤثر إيجابيًّا على فريق من هؤلاء المرضى فتبعث فيهم شيئًا من الحياء أو توقظ خيرًا كامنًا في نفوسهم قد يتغلب مستقبلًا على المرض؛ لكن يبقى أن الأسلوب الأمثل في التعامل معه هو عدم الالتفات إلى شخصه، قطعًا للطريق عليه حتى لا يُشبِع نُهْمَتَه المَرَضِيَّةِ على حساب الحق الذي يُحَاربه، وكَم من مغمور ضعيف العقل والعلم أصبح له شهرة كبيرة وحظوة عند المؤسسات الإعلامية العالمية المروجة للباطل والناشرة للإفك بسبب استجابة الجماهير وصلحاء أهل الثقافة والعلم والقلم لما يثيره هؤلاء والرد عليهم بشكل شخصي حتى لَمَعُوا وبرزوا وأصبحوا فتنةً للناس تُوجِبُ الرد على شخوصهم، فما ذكرتُه من ضرورة الرد التأصيلي وعدمِ تسمية المردود عليه من هؤلاء المرضى، لا يشمل من وقع فأسُه في الرؤوس وأصبح مشهورًا، وإنما هو حكم على من مازال يبحث عن الشهرة، أو من اشتهر لكن لم يبلغ حد أن يكون فتنةً للناس.

وهذا المرض ليس أحد بمنجى منه إلا من رزقه الله تعالى وأدام عليه الحِكمة والثبات والتواضع، فإن المرء قد يبلغ من العلم شأوًا، ثم يبتليه الله تعالى بنزع حكمته أو شيئًا منها أو تضعضع ثباته في زمن تكاثر الشبهات والشهوات، أو يُصَاب بشيء قَلَّ أو كثر من الكِبر، فإذا ابْتُلِيَ عالِمٌ أو طالب علم بذلك، فلا تأمن أن يقع في حبائل مرض الشعور بالنقص أو الانهزام الثقافي فيكون قلبُه إسفنجة تمتص الشبهاتِ ثم تعصرها على الناس، وهذا خَطَرُه أعظم لأن الثقة به قبل ابتلائه أكبر وأكثر أثرًا في انتشاره وقبوله بين الناس، لكن الله تعالى عَوَّد خلقه من رحمته ما لا ينقضي منه العجب، ومن ذلك أن أمثال هؤلاء ممن كسبوا ثقة الناس بعلمهم إذا صرفهم الكِبرُ والانهزام الحضاري عن العدل وتَرَدَّوا في حبائل الشبهات انكشف للناس عَطَبُهم مما تنفثه ألسنتهم من الحِدَّة والسوء على أهل الثبات الذين لم يلتبس عليهم الحق بالباطل فيظهر لأهل الفطر السليمة ولو لم يكن لهم حظ من العلم بطلانُ دعاوى هؤلاء وخطؤهم في منطلقاتهم وغاياتهم، إذ مما تُسَلِّم له راجحات العقول أن المنطلِق من الحق وقاصدَه أكثرُ ما يكون شفقة وعطفًا على من كان هو وإياهم في صف الباطل سواء ثم عافاه الله منه، أما حين تراه شديدًا على من كان في صفهم، صلفًا في ألفاظه نحوهم ساخرًا منهم، مُتَّهِمًا إياهم، فإن الذي ينقدح لدى النفوس السليمة أن هذا ليس بالداعي المشفق ولا الناطق بالحق، وبذلك فلا تنطلي شبهات أولئك المأزومين على الناس وإن أحدثوا ضجيجًا وصخبًا أول أمرهم، لاسيما حين يقوم العلماء بدورهم في تجديد التأصيل الشرعي وتكرار إشاعته بين الناس.

وكما أن الأمراض لا تُمَيِّزُ بين الناس، فكذلك هذا المرض، فكما يصيب المثقفين والعلماء فهو يصيب عامة الناس وبدرجات مختلفة، تبدأ من تقليد الأمم الأخرى بشيء من اللباس أو طريقة المأكل والمشرب، أو لَيِّ الألسنة بلغات الغير دون حاجة، وانتهاء بالانسلاخ التام عن هوية الأمة لا في المَظْهَرِ وحسب، وإنما في المظهر والمخبر.


وأولى درجات هذا المرض قد تكون موجودة بكثرة في المجتمعات التي تشعر بغلبة غيرها عليها، ووجودها بهذه الدرجة المتدنية من المرض طبعي وغير مضر، وربما يكون نافعًا حين يتكون منها حافز نحو التقدم والتغلب؛ لكن حين يتطور المرض إلى درجات أكبر من الانهزام نحو الأمم التي يشعر بعض العامة بأنها هي الأمم الغالبة عند ذلك يصبح المرض خطيرًا جدًا، والمصاب به إن لم يتم علاجه سريعًا يكون قنبلة موقوتةً تنتظر الانفجار في أي ظرف ملائم لانفجارها.

لذلك فإن مما ينبغي التنبه إليه في إدارة الحرب الفكرية معالجة هذه الدرجة من الانهزام الحضاري عبر الإعلام والتعليم والدورات المتخصصة، ودراسة أسبابه والعمل على الحيلولة بينها وبين المجتمع ؛ وبذلك ينبغي أن يَكُفَّ الإعلامُ أو يُكَفٌّ عن تعميق الانهزام الحضاري عبر نشر الحط من ثقافتنا وهويتنا وثوابتنا بشكل مستمر عبر

أقلام وأفواه ودراما مستوردة أو مُقَلَّدة تتسلط على كل ذلك باسم حرية الرأي والتعبير وحق الآخر والانفتاح الثقافي.