أكتب هذا المقال وممثلو القوات الروسية وممثلو النظام السوري والإيراني داخل حي الأربعين في مدينة درعا البلد في انتظار استسلام باقي المسلحين، ورغم كل ما حدث من الدمار والتهجير في البلدة إلا أن ممثل الجيش الروسي لا يزال يتوعد بالويل والثبور للبقية الباقية في هذه البلدة من سوريين وفلسطينيين.

وغاب كالعادة عن درعا وما يجري فيها الإعلامُ العالمي، والتصريحات الدولية والإدانات الأممية التي شغلها تفكيرها بطالبان، وما يمكن أن تفعله بالمرأة الأفغانية من إجبار على الحجاب، عمَّا يفعله الجيش الروسي والإيراني والأسدي من قتل للمرأة الدرعاوية والفلسطينية وتهجير لها ولأسرتها وذبح لأبنائها وإخوانها أمام عينها، وتتبعتُ الأخبار فلم أرَ هيئاتِ حقوق الإنسان التي رحمت حتى العاملين بمعصية قوم لوط التي حرَّمتها جميع الديانات، ووصفت جريمتهم التي تنتهك الفطرة الإنسانية بأنها مجرد شذوذ، لكن عاطفتها النبيلة هذه لم تحركها قلوبُ الأطفال التي ترجف مع كل إطلاقة مدفعية في ليل درعا المظلم ولا الدماء التي تنزف ولا الأرواح التي تُلْفَظُ هناك مع رصاص البنادق وهدم البيوت وقصف المجمعات السكنية والتجارية.

جيوش ثلاث دول تحاصر بلدة صغيرة وتهدد جميع من بقي فيها بالإفناء ألا تستحق حتى الإدانة، والإدانة وحسب.


وحادثُ رجلٍ ملتحٍ يطالب امرأة أفغانية بالتحجب يقيم الدنيا ولا يقعدها، وحادث المدافع الكبيرة التي تعوي كلَّ مساء في ظلام درعا لا يُثير ذَرَّة غُبار.

كثيرة هي المفارقات العجيبة التي تُدمي القلب في عالم السياسة الدولية، والتي يسميها بعض المحللين سياسة الكيل بمكيالين، والحقيقة أن الكيل بمكيالين أمر انتهى زمنه، فاليوم ليس في عالم السياسة مكاييل أصلًا، لذلك لا تعجب حين تغزو أمريكا العراق سنة 2003 بحجة اشتباه وجود أسلحة نووية، بينما يتم التفاوض البطيء جداً مع إيران التي تسعى علنًا لإنتاج قنبلة نووية، وتُتَّهم السعودية تلميحًا وتصريحًا برعاية الإرهاب وتُتْرك إيران التي مولت القاعدة وداعش والحرس الثوري وعصائب الباطل وحزب الشيطان والحوثيين، وتسببت في موت أكثر من مليوني إنسان وتشريد ما يزيد عن عشرة ملايين من العراقيين والسوريين واللبنانيين واليمنيين، ومن الإيرانيين أيضًا، نعم الإيرانيون الذين يقتلهم نظامهم ويهجرهم من أهل السنة والأحوازيين، وكذلك من الشيعة المتطلعين إلى وطن آمن مستقر.

إذن فالمكاييل مختفية ولا ميزان في السياسة الدولية اليوم إلا للأحقاد المبنية على أفكار خرافية ينسبها أصحابها إلى أديانهم التي وإن اختلفنا معها فحقيقتها منهم ومن وحشيتهم براء، فما كانت خرافات ملالي إيران التي يُقِيمون على أساسها علاقاتهم الدولية من التشيع الحق في شيء، ولا خرافات الصهاينة المعاصرين من اليهودية والنصرانية في شيء، ومع ذلك فمن المؤسف أن هذه الخرافات هي المعتقدات التي تُدار بها سياسات الدول المنتمية لهذه الديانات في المنطقة، ومنها سياسة السكوت الدولي العام والمؤسسي عمَّا يحدث في درعا.

حتى داعش والقاعدة والعَدِيد من الفصائل التكفيرية المنتسبة لهما فكرًا والتي طالما زعمت أنها تجاهد للدفاع عن السنة وأهلها وخدعت بهذه الشعارات كثيرًا من الشباب المفتون جددت فضح نفسها في درعا لتجدد الإثبات بأنها تعمل حيث يَطلُب منها الإيرانيون أن تعمل، لذلك فعملهم اليوم في درعا مقتصر على منع أهل درعا من التوصل إلى حل مع هذه الجيوش الثلاثة التي تحاصرهم، ثم بعد ذلك سيكون مصيرهم الهرب وتسليم المدنيين العُزَّل إلى سياسة الأرض المحروقة التي انتهجتها إيران وروسيا في درعا، لتكرر إيران وداعش مسرحيتهما القديمة والتي مثَّلاها في تكريت وخانقين والفلوجة والموصل في العراق، حيث استولت داعش على تلك المدن ثُمَّ سَلَّمَتها ومواطنيها إلى إيران وعملائها ولاذت بالفرار.

أما روسيا فقد تعودت اختصار المعارك بسياسة الأرض المحروق، إذ هكذا أنهت مشكلاتها في جروزني حيث دمرت 98٪ من المدينة للإسراع بإنهاء المعركة مع أن الشيشانيين في نهاية الأمر مواطنون روس، فنسأل الله تعالى حماية الدرعاويين من هذه السياسة التي لم ولن يجدوا عنها من أهل الأرض وليًّا ولا نصيرًا.

أما صنعاء فهي أيضًا مثال بارز لانعدام الموازين في التقييم الدولي للمواقف تُشابه درعا من جوانب عدة، حيث تستولي عليها ميليشيا تابعة لدولة أجنبية مختلفة عنها لغةً ومذهبًا وعنصرًا، وتحاصر الشعب في أقواته وتنتهب مقدراته وتريد تسليمه لإيران، وتجعل هذه الميليشيات صنعاءَ قاعدة للعدوان الإيراني على بلادنا، ومع هذا يقف المجتمع الدولي منها موقفًا يتسم باللامبالاة أو لنقل البلادة، فلا يوجد موقف دولي صارم بحق هذا العدوان الإيراني على اليمن، مع أن هؤلاء الحوثيين يُظهرون أنفسهم كمشروع دولة ذات دين مبني على الخُرافة والعنصرية والطبقية وتؤمن بما يُشابه عقيدة الكنيسة الكاثوليكية قبل أربعمائة عام حيث كان البابا ينصر فكرة الحق الإلهي لأمراء أوروبا وخاصية الدم الأزرق للنبلاء، ونرى هؤلاء الحوثيين يؤمنون بأنهم معينون من الله مباشرة بما يعرف في فقههم باشتراط أن يكون الحاكم من البطنين، ويرون لهم الحق الشرعي في قتل الناس من أجل ألَّا يحكم إلا هم، كما فعل أسلافهم كإبراهيم الجزار وعبدالله بن حمزة الذي يرتجز ملخصًا فتواه الفقهية في من يقول تجوز الولاية لغير أبناء البطنين:

أما الذي عند جدودي فيه

فيقطعون لسنه من فيه

وييتمون ضحوةً بنيه

هذا الفكر الاستئصالي العنصري يُعلنه الحوثي، ومع ذلك يجد الرئيس بايدن لنفسه الحق في أن يجعل أول قراراته رفع الحوثي من قائمة الإرهاب دون أن يبالي بشعار الموت لأمريكا الموت لإسرائيل الذي يصرخ به الحوثي وأنصاره في كل حين، مما يؤكد أن هذه الصرخة لا تختلف عن عداوة داعش لإيران والأمريكيين واليهود فكلها كلام في الهواء، أو لنقل مثل الجبن الذي يوضع في مصيدة الفئران.

أضف لذلك أن علاقة الحوثيين الذين تتعاطف معهم الإدارة الأمريكية بالمرأة والطفل والآداب والفنون علاقة رديئة جدًا، بل ظالمة، ومع ذلك فحديث الغرب ليس سوى عن المرأة المحجبة السعودية والأفغانية وعن موقف الوهابية [حسب وصفهم] من المرأة والحرية والفن، مما يؤكد أن ما يُمارسه الغرب من الضغوط ليست في سبيل نشر العولمة كما يُشيعون، بل إن العولمة ذاتها عبارة عن قوة ناعمة تستخدم ضد من يريدون.