منح الشافعي هذه الآية اهتمامًا كبيرًا نظرًا لكونها تتعلق بقضية دينية تهم كل المسلمين وهي قضية استقبال القبلة. قام الشافعي في كتابه «الرسالة» الذي يعد من الكتب التأسيسية في مجال علم أصول الفقه، بمعالجة عبارة «شطر» معالجة لغوية، باعتبار أن كلمة «شطر» تستخدم بطريقة محددة لأن لها أصل تاريخي معين يحدد المعنى التداولي لها في حقبة تاريخية معينة، وهي الحقبة التاريخية التي تزامنت مع عصر نزول الوحي. قام الشافعي بدراسة اللفظة وتتبع تطورها من خلال الوثائق المتاحة في عصره ودراسة تاريخ المجموعات البشرية الناطقة بهذه الكلمة.
وللبحث عن دلالات لفظة «شطر» اللغوية، قدم الشافعي في رسالته أربعة أبيات شعرية لأربعة شعراء مخضرمين عاشوا العصرين، الجاهلي والنبوي، وهم: خُفاف بن ندبة وساعدة بن جؤية ولقيط الإيادي وشاعر جاهلي لم يذكر اسمه، أبرز ما نعرفه عن الشاعر الأول أنه من الشعراء الفرسان ومن أغربة العرب والثاني أنه من مخضرمي الجاهلية والإسلام أسلم وليست له صحبة. والثالث شاعر من أهل الحيرة. هؤلاء الشعراء استخدموا عبارة «شطر» في قصائدهم ولذلك استشهد بهم الشافعي قائلًا: «وهذا كله مع غيره من أشعارهم يبين أن شطر الشيء قصد عين الشيء: إذا كان معاينا فبالصواب، وإذا كان مغيبا فبالاجتهاد بالتوجه إليه، وذلك أكثر ما يمكنه فيه».
ما قام به الشافعي في معالجته اللغوية لعبارة «شطر» مؤشر على وجود وعي منهجي عميق لدى الشافعي وحرص شديد على تفادي الاختلاط في المفاهيم والمصطلحات والتحير في حصر المدلولات، وذلك عبر وصل الكلمة بأصلها أو بمعنى آخر تحقيق الصلة بالأصول اللغوية من خلال دراسة الكلمة تاريخيا ودراسة المعنى الحالي للكلمة ومقارنتها بمعناها التاريخي, فالمعنى الدلالي للكلمات يتطور داخل حركة المجتمعات وهذا ما يدركه جيدا الإمام الشافعي ومن هنا تكمن الأهمية التاريخية لمجتمع السلف، وهي أهمية ذات طبيعة لغوية بالدرجة الأولى كما يتضح من دراسة الشافعي لعبارة «شطر» فقد قدم أبيات شعرية لشخصيات أدبية عادية ليس لهم مكانة دينية خاصة، وكل ما يميزهم أنهم ينتمون لمجموعات بشرية نزل القرآن الكريم بلسانهم.
في الدراسات اللغوية الحديثة، ينتمي بحث الشافعي لعبارة «شطر» ضمن حقل علم أصول الكلمات أو علم الإتيمولوجيا (Etymology) ويعرف هذا العلم أنه العلم الذي يبحث عن العلاقات التي تربط كلمة ما بأخرى قديمة تعد هي الأصل أو البحث عن المعنى الأصلي للكلمة. وهذا يعد جوهر المنهج السلفي في فهمه للنصوص المقدسة، وهو فهم يقوم على منح اللغة في بعدها الإنساني أو المعنى الظاهر للنصوص أهمية كبرى في عملية تفسير النصوص، بمعنى أنها تستبعد أي تفسيرات رمزية يقصد بها معان باطنية للنصوص يذهب الناس في فهمها وتأويلها كل مذهب.
هناك ثقة كبيرة باللغة الإنسانية في المنهج السلفي، فهي قادرة على الكشف عن معاني النص المقدس دون الحاجة لأي رياضات روحية أو مجاهدات نفسية تجلي خفاياه الدلالية، والنص بدوره لا يحوي أي أسرار باطنة أو معان مستترة مودعة فيه تعجز عن الإحاطة بها لغة الإنسان العادي، ولا يوجد طبقة دينية خاصة تملك حق تفسيره وتأويله وامتلاك أسرار معانيه بما تقدمه من طقوس خاصة أو مجاهدات نفسية وبدنية شاقة لاستجلاب معاني النص. ومن هنا نستطيع تبين حقيقة المنهج السلفي وحقيقة منهجه اللغوي، فهو لا يتبنى لغة الرمز والإشارة بقدر تبنيه اللغة التي تقع في محيط عامة الناس أو اللغة في بعدها الإنساني، لذلك كان للشعر الجاهلي أهمية كبيرة في تفسير كثير من الآيات القرآنية، مع أن الشعر الجاهلي ليس له مكانة مقدسة أو يتضمن أي تعاليم دينية بشكل أو بآخر.
في التجربة الصوفية هناك محاولة لتجاوز حدود اللغة الإنسانية العادية، فاستعاضوا عن اللغة العادية بلغة الرمز والإشارة، في تفسيرهم للقرآن الكريم أو في التعبير عن تجاربهم الصوفية ومقاماتهم ومكاشفاتهم الروحية، فالتجربة الصوفية في جوهرها بحث عن المعنى الباطني للنصوص، فاللغة الإنسانية هنا تعاني العجز والقصور في التعبير عن المطلق والمتعالي، يقول المفكر المصري نصر حامد أبو زيد: «يسعى الصوفي في مجال تفسير القرآن إلى شرح الغامض وإظهار الباطن، في حين يبدو في تعبيره عن تجربته الصوفية ساعيًا إلى الستر والإخفاء والغموض».
تتضح هنا الفروق المنهجية بين التجربتين، الصوفية والسلفية، وهي فروق تتجلى في تعاطيها مع اللغة، فالتجربة السلفية تولي اللغة الإنسانية العادية اهتماما أكبر من خلال دراسة المستويات الدلالية الوضعية للتجربة الإنسانية دون الخوض في تأويلات خارجة عن محيط المجتمع الإنساني، والمجتمع الإنساني يقصد به المجتمع السلفي بحكم أن الفرد في هذا المجتمع يمثل شاهد عيان أو ناطقًا باللغة ومدركًا لأساليبها التعبيرية.
وفي كتاب (التصوف.. الثورة الروحية في الإسلام) يقول أبو العلا عفيفي أستاذ الفلسفة في جامعة الإسكندرية: «يرى السالك في هذا الطريق أشياء لا يراها غير الصوفي، وتعترض سبيله عقبات لا تعترض سبيل غير الصوفي، وتعتريه أحوال لا يعانيها غير الصوفي، فلا يجد لغة يعبر بها عن هذه الأمور كلها سوى لغة الرمز والإشارة، لأن الأمور التي يرمز إليها لا تقع في محيط عامة الخلق».