وهذا يُفسِّرُ لنا توافق تَدَرُّج ضعف إبداع المسلمين في العلوم العملية مع تدرج ضعف السيطرة الثقافية للسلفية، حتى دخل المسلمون فيما يُعْرَفُ بعصور الظلام، وهو زمن سيطرة أهل البدع على زمام السياسة والعلم.
إذن ما الذي يجعل السلفية أقدر على تحريك الإبداع واستيعاب المبدعين دون المذاهب الأُخرى البِدعِيَّة؟
الجواب هناك العديد من الأُمور، منها:
أولًا: موقفهم من القضاء والقدر، فهم لا يقولون بأن الإنسان مجبور على عمله، ليس له أثر فيه، ولا يقولون إن الأسباب ليس لها أثر في حدوث المسبَّبَات، كما هو مذهب الجهمية، وكما هو لازم مذهب الأشاعرة والصوفية الأشعرية؛ فهذه العقيدة حقًا تَحُول بين الإنسان وبين الإبداع، لأن المُبدِع المؤمن بهذه العقيدة لن يستطيع إعمال مَلَكَة الإبداع لديه لأنه لن يؤمن بوجود هذه المَلَكة لأنه في هذه الحياة كالنهر الذي لا يَملٍك تغيير مجراه أو كالريشة في مهب الريح.
كما أن السلفيين لا يغلون في مسؤولية الإنسان عن فعله كما يفعل المعتزلة ومن وافقهم من الاثنى عشرية والزيدية والإباضية، القائلون إن الإنسان يخلق فعل نفسه، وليس لله تعالى أي علاقة بفعل العبد؛ فهذه العقيدة إضافة إلى ما فيها من إشراك العباد مع ربهم في ربوبيته وخلقه، فإنها تَكِل الإنسانَ إلى نفسه، وتجعله في صراع مع حاجته الفطرية إلى الهداية الإلهية والتوفيق والإلهام والتسديد، وهذا مما يُشَكِّل عائقا مهمًا في وجه العقل المبدع.
ومذهب السلف: أن العبد له مشيئة وإرادة يستطيع بها معرفة الخير والشر واختيار أيهما شاء، وأنها لا تخرج عن مشيئة الله وإرادته وخلقه، لذلك فالعبد في حاجة إلى توفيق الله له وتثبيته وتسديده، فمن اتبع هذا المنهج حَفَزَه للعلم وللعمل بشتى طُرُقه، ولم يُثَبِّطه عنه شعورُه بأنه كالريشة في مهب الريح، ولَم يُثْقِل كاهِلَه شعوره بالوحدة والاستقلالية عن خالقه معاذ الله.
ثانيًا: موقفهم من التحسين والتقبيح العقليين، وهي مسألة نقلها أهل الكلام والفلسفة إلى مناقشات العقيدة الإسلامية، فالسلفيون لا ينكرون قدرة الإنسان بعقله وما فطره الله عليه من التمييز بين الحسن والقبيح، كما هو شأن الأشاعرة ومن قلدهم من المتصوفة، الذين يقولون بعجز العقل عن إدراك الحُسن والقبح في الأفعال والصفات، وحصر ذلك في النص، وتقف نظرتهم تلك أمام العقل وتُعَطِّل قُدُرَاته الإبداعية، إذ إن العجز عن التمييز بين الحسن والقبيح يعني بلا شك العجز عن معرفة ما هو أعظم.
كما لا يقولون بأن العقل هو المُتَفَرِّد بالقدرة على الحكم على الأفعال بالحسن والقبح، كما هو حال المعتزلة الذين تُسهِم نظريتهم هذه في تقديس العقول وجعل النصوص تابعة لها، الأمر الذي يُطلق عنان العقول لدرجة يجعلها ترى ما قَبَّحه الشرع حسنًا فيصل الأمر بها إلى ألا تبالي ما ابتكرت أهو مما تصلح به الأرض أم تفسد، وهذا من أعظم ما توصف به العقول النيِّرة.
والسلفيون يقولون إن الله تعالى أمدَّ العقل البشري بالقدرة التامة على الحكم في الأشياء وتبيين حسنها من قبيحها سواء أوَرد الشرع بذلك أم لم يَرِد، لكن إذا حسَّن العقل أمرًا قبَّحه الشرع، أو قبح الشرع أمرًا حسَّنَه العقل، فالمرجع في التحسين والتقبيح إلى الشرع، وهذا يُعين العقل ولا يُقيده لأنه يجعل له مرجعًا يستند إليه حال تضارب العقول واختلافها، لأن ذلك يمنع العقول أن تسعى في إفساد الأرض من حيث تريد الإصلاح كما وقع في زماننا هذا الذي أُطْلِقَ فيه للعقل العنان، فترتب على ذلك ما يحدث من فساد في الأرض بعد إصلاحها.
ثالثا: موقفهم من عالم الغيب، وهو ما لا يُمكن إدراكه من العوالم إلا بخبر الله تعالى وخبر نبيه صلى الله عليه وسلم عنه، كصفات الله تعالى واليوم الآخر والجنة والنار والسراط واللوح والملائكة وعذاب القبر، فلا يَتبع السلفيون ما لا يعلمون كما لا يبحثون في كيفيات ما ورد في هذه الأخبار من الصفات، كشأن أهل البدع الذين يعرضونها على تصوراتهم فمنهم من ينفيها كليةً كما يفعل الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ومن اقتبس نهجهم في هذه القضايا من الصوفية والشيعة والإباضية، وهو منهج يعُيق المبتكر لأنه يشغله عن التفكير في عالم الشهادة الذي يمتلك البشر كثيرًا من أدوات معرفته وفحصه، وهذا ما حدث حقًا في تاريخ الفكر الإسلامي حيث شُغِل المفكرون بالخلاف في تكييف الأسماء وحدث جراء ذلك من الفرقة بين المسلمين وضياع الجهود ما لم يكن ليكون لو التزمت الأمة منهج السلف في التعامل مع عالم الغيب، وذلك بإثبات ما أثبته الله من غير تكييف ولا تحريف ولا تعطيل، في كل قضايا عالم الغيب وليس في الأسماء والصفات وحسب.
رابعًا: موقفهم من التعصب والتقليد، فهم لا يرون الانتساب إلى المذاهب الفقهية الأربعة في الفروع واجبًا؛ كما يرون الانتساب إلى أي مذهب عقدي خلاف ما كان عليه السلف حرامًا، وكذلك يُحَرِّمُون الانتساب لشيخ في طرائق السلوك، وهذا ما يجعل أذهانهم أشدَ حدةً وصفاءً وأكثر تأهبًا للابتكار ممن يؤطرون أنفسهم على التقليد ويجعلون الانتساب لمذهب في الفروع والاعتقاد والسلوك واجبًا، كما هو حال الأشعرية والماتريدية والصوفية، الذين ليس لهم حظ من طلب علم الفقه إلا جمع أقوال المذهب والدفاع عنها ولو خالفها الدليل، حتى لو مَلَكَ الواحدُ منهم آلة الاجتهاد من معرفة الفقه والحديث والأصول واللغة، فليس له في زعمهم الخروج عن مُختار المذهب، فعقل كهذا كيف يتهيأ للابتكار !
ناهيك عمَّن علق حياته على أمر الشيخ ونهيه يُقلبه شيخه كيف يشاء وليس له حظ من نفسه، أو من بَلَغَ به السفه حد ترك معتقد الصحابة ليُقَلِّد الأشعريَّ في معتقده؟!
خامسًا: موقفهم من البدعة، فلم يتراخوا مطلقًا في فهم دلالة قوله تعالى: (اليوم أكملتُ لكم دينكم) ولا دلالة قوله صلى الله عليه وسلم (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) كما تراخت جميع الفرق الإسلامية والمنتسبة للإسلام حتى أصبحت بلاد المسلمين مرتعًا للخرافات التي لا يقبلها عقل ولا ذوق ومع ذلك تُنسب للإسلام حتى أصبحت صورته بين العالم أنه لا يختلف عن اليهودية والنصرانية بل والبوذية فكلها تُقَدِّس الأشخاص والضرائح والكهان وتدعو مع الله ما لا يضر ولا ينفع وإن اختلفت الأسماء في كلٍ، والعقل الخُرَافي ليس عقل إبداع، لأنه مُثْقَل بالتكاليف مُحَاصَر بأشتات الأوهام والخزعبلات التي تحول بينه وبين التفكير، أما العقل السلفي فهو عقل حر، ليس عبدًا إلا لله يعيش بين تكاليفه الدينية التي هي نسبة لمجموع يومه يسيرة، مُوجِهًا خوفه ورجاءه ومحبته لله، وليست عواطفه تلك موزعة بين أشتات من القبور والمشاهد والآثار، والحرية من الاستعباد العاطفي من أهم دوافع الابتكار، وهذا ما يوفره مذهب السلف لمعتنقيه.
سادسًا: ظل العلماء المنتسبون لمنهج السلف رضي الله عنهم منذ القرن الأول وحتى اليوم متصالحين مع العلوم الدنيوية بل وبعضهم مشارك فيها كالطب والحساب والهندسة والكيمياء والفيزياء وعلم الحركة، ولا يُعرَف لهم فتوى بتحريم الاشتغال بها، إلا بعض ما يُنسب إلى الكيمياء وعلم الحركة من أمور ليست من العلم وإنما هي من الخرافة والخديعة باسم العلم، أما حقيقة العلم ومكتشفاتها فليس لهم موقف منها، بل على عكس ذلك تراهم آخذين عن أهلها مثنين عليهم، ومن نظر في تراجم الذهبي مثلًا لأمثال هؤلاء في سير أعلام النبلاء وتاريخ الإسلام عرف صحة ما نقول؛ وهذا على عكس الفرق الأُخرى في عصر ما يسمى بالظلام، حيث حَرّموا الاجتهاد وأغلقوا بابه في علوم الفقه، وكفَّروا من يقول بكروية الأرض، وحَرّموا الطباعة حتى حرموا المسلمين منها أربعمائة عام، ومع ذلك يستيقظ اليوم أبناؤهم ليرموا السلفية بجريمة آبائهم.
والحق أن هذه الأمور الست ليست إلا أمثلة لمحركات العقل السلفي نحو الإبداع وإلا فكل منهج السلف مجتمعًا دافع ومهيئ للإبداع؛ لكن يأتي سؤال: وهو لماذا كان كثير من مبدعي المسلمين من المتهمين في دينهم كالخوارزمي وابن سينا؟
والجواب أن هؤلاء لعل من أسباب ضلالهم ضيقهم بتضييق مذاهب البدعة عليهم مهايع التفكير والإبداع، فبدلًا من أن يلتفتوا إلى حقيقة الإسلام ويثوبوا إليه ويعلموا أنه لا تعارض بينه وبين ما يشتغلون به، انحرفوا عن الدين بالكلية إلى فلسلفة اليونان وظنوا أنها المُخلِّص من ضيق التفكير والأُفق البدعي، وعملهم مضاهٍ تقريبًا لما قام به مجددو العصر الحديث في أوروبا حين فتح لهم ديكارت باب العلم بما أحدثه من نظرية الشك، وقد أوضحتُ ذلك في مقال نشرته جريدة «الوطن» بعنوان السلفية والديكارتية.