إذا، وحسب «عقيل»، فإن الإسلام المتسم بالتشدد الداعي إلى الإرهاب هو الإسلام الذي يأتيهم من العرب، والعرب هم سبب المشكلة بل هم المشكلة كلها. وقد رد سماحة إمام الأزهر على هذا الكلام العنصري برد بليغ مقنع، اتضح بعده أن «عقيلا» شعر بالحرج الشديد أمام ضيفه العربي وأمام الحضور والمتابعين، فأراد أن يجامل الشيخ، ويمحو ما زل به لسانه، فطلب من إمام الأزهر تكثيف المنح الدراسية للطلاب الإندونيسيين، لأنهم محتاجون لتعلم الدين الوسطي من الأزهر، ثم أكد أن السعودية تقدم منحا كثيرة، ولكنها خطيرة، لأنها تنتج التطرف والتشدد الوهابي، وفي هذه اللحظة تذكر المتحدث أنه هو نفسه أحد خريجي جامعات السعودية، فقال: أنا أقصد طلاب البكالوريوس، أما الدكتوراه فليست لديهم مشكلة، وأقر أنه حاصل على الدكتوراه من جامعة «أم القرى» من مكة، ثم عقب بكلام ساخر من سنة «اللحية»، حيث قال إنه لم يضع لحية وهو في السعودية، بينما زميله القاعد بجواره كان ملتحيا في مكة، ولما عاد إلى إندونيسيا حلقها!.
هذا اللقاء مع أنه ليس حديثا، لكنه انتشر أخيرا، ووجد استياء كبيرا ممن رأيتهم من المُتلقين، للمغالطات التي احتواها من رجل يُفترض أنه أحد رجالات أقدم جمعية دينية من حيث انتشارها، إذ تمتد مكاتبها على طول وعرض الأرخبيل الإندونيسي، الذي يفوق عدد سكانه المائتين وخمسين مليونا.
وأعتقد أن ما أدلى به «عقيل» لا يمثل سياسة الجمعية، ولا تجتمع عليه قياداتها، بل في ظني إنها آراء قد تراجع عنها الدكتور عقيل نفسه، لأنها ربما تمثل فترة التقارب الكبير بينه وبين إيران، الذي لم ينته إلى أي إيجابية يحصل عليها المسلمون في إندونيسيا، حيث اكتشفوا أنها ليست سوى دولة تدعم التطرف والصراع والإرهاب في العالم الإسلامي، وقربُه الشديد منها كان نقيض ادعائه القرب من الأزهر، الذي كان وما زال من القلاع المواجهة للمد الصفوي، الذي انخدع به «عقيل» وفتح له أبواب بلاده.
هذا المقال ليس ردا على عقيل سراج، الذي يُلاحظ انضباطُه الأخير تجاه السعودية، وأرجو أن يكون آخر تقلباته، وإنما هو رد على الفكرة التي تضمنها المقطع، وعلى من أعاد نشره، ابتغاء النيل من السعودية والدعوة السلفية المباركة.
عَنِّي، نظرت إلى الحوار على أنه مجموعة من الاعترافات الإيجابية من ابن عَقَّ المملكة فترة من الزمن بدوافع شخصية غالبا، فهو يقر بأن السعودية لم تتخل عن مسؤوليتها تجاه المسلمين في تعليمهم ودعوتهم وتوعيتهم، فالطلاب الإندونيسيون في السعودية كثيرون جدا، حسب تعبيره، وفي هذا رد على من يُكثرون التشغيب، ويتهمون المملكة بذلك. كما أنه أقر بأن هؤلاء الكثير هم من المنتسبين إلى جمعية نهضة العلماء، وهو أحدهم، مما يؤكد أن السعودية في توجهها نحو نشر المعارف في العالم الإسلامي محايدة، ولجان اختيار الطلاب المستحقين في جامعاتنا ليست متحيزة لجهة أو مذهب دون آخر، ولا تسأل في المتقدم للمنحة سوى عن مدى أهليته العلمية، وعقيل سراج خير مثال، إذ تقدم لنيل الدكتوراه في المملكة على نفقتها، ولم يُسأل عن انتمائه المذهبي أو الحزبي، ولم يُتَعقب في ذلك، ولم يحل انتماؤه لـ«نهضة العلماء» دون قبوله، مع معرفة الجامعات والسلطات الأمنية بموقف كثير من قادة هذه الجمعية من بلادنا، وتوجهها الديني السلفي. كما لم يكن هناك عمل على تجنيده، ليعمل في بلاده وفق برنامج يُعَد له من بلادنا، كما تفعل ذلك إيران مع الطلاب الذين تُقدم لهم المنح الدراسية. يشهد لذلك أن المنح بدأت السعودية في تقديمها لإندونيسيا في حدود 1390، ومع هذا لا نجد هناك أي حزب سياسي أو جمعية مؤثرة في العمل السياسي لها تبعية لبلادنا أو تعمل وفق برنامج يخدم مصالحنا هناك، فالعمل السعودي العظيم داخل إندونيسيا وغيرها ليس له من أهداف سوى خدمة العلم والمعرفة، وإيقاظ القلوب والعقول، وفك أسرها من البدع والخرافات والولاءات لغير دينها وأوطانها، ولا يقوم بأي نشاط يخالف أنظمة البلاد وسيادتها، وهذا ما جعل معهد الدراسات العربية في «جاكرتا» بعيدا عن تسجيل أي ملاحظات أمنية أو فكرية عليه من قِبل السلطات الإندونيسية أو الجهات الثقافية والتعليمية الرسمية، الأمر الذي شجع المسؤولين هناك على تقديم التسهيلات للمراكز الثقافية التي تقيمها المؤسسات السعودية، وآخرها الجامعة الإسلامية الدولية التي أسهمت السعودية في تكاليف إنشائها. كما تم افتتاح 4 كليات أخيرا في البلاد برعاية المملكة، وما زالت هناك مطالبات بالمزيد، فلولا أن السلطات السياسية والأمنية والثقافية ترى أن المنشآت التعليمية السعودية داعمة الوسطية والأمن والاستقرار لم يكن هذا الترحيب، وهذه الكثافة في العمل.
كما أقر الرجل بفاعلية خريجي الجامعات السعودية، وأثرهم في المجتمع الإندونيسي، ولم يستطع أن يتحدث عن أي أثر سلبي لهم في بلادهم سوى اتهامهم بالوهابية والتشدد والتطرف، ومثاله الوحيد الذي استطاع تقديمه هو تربية خريجي السعودية اللحى، أي أنهم أكثر اتباعا لسنن المصطفى الظاهرة - صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما ما يزعمه من التطرف، فلن يستطيع أن يجد له مثالا سوى الاختلاف في بعض الاجتهادات الفقهية، التي قد يراها هو تطرفا، لكنه لا يعدو الخلاف فيها خلافا في الاجتهاد، إن كانت مما يسوغ فيها الاجتهاد، لأن تاريخ الإرهاب في إندونيسيا لا يذكر في صحائفه من قادة العمل الإرهابي والمروجين له أحدا من خريجي الجامعات السعودية، فمن المعروف أن أشهر المتهمين بالتطرف في إندونيسيا وهو أبو بكر باعشير، الذي سُجن بتهمة التدبير لتفجيرات بالي في 2001م، لم يدرس في السعودية مطلقا، وهو من أسرة صوفية، وأمان عبدالرحمن، الذي أدين بالتحريض على عدد من التفجيرات، لم يدرس في السعودية مطلقا، ومحمد غانوزو سابتونو، الملقب بـ«ذي القرنين»، المتهم بالتآمر للانقلاب على الجمهورية ممن ينتمون لحزب «التحرير»، الذي توجد مقراته في عدد من دول أوروبا، ليس له أي انتماء أو نشاط في السعودية، وهو خريج مدرسة «المكمن» الإسلامية، وهي مدرسة إندونيسية داخلية، وأبو وردة سانتوس، الذي اعتبره الرئيس الإندونيسي الإرهابي رقم واحد، وجند للقبض عليه ألفي عنصر من كل القطاعات العسكرية في حملة انتهت بقتله في 2016، أيضا دَرَس في إندونيسيا، والأمثلة على ذلك كثيرة.
كما أن الأمثلة المُشَرِّفة للعمل الدعوي الرصين الوسطي لخريجي الجامعات السعودية أكثر بكثير، ومنهم الدكتور نور هدايت، رئيس حزب «العدالة والرفاهية» ومجلس النواب الإندونيسي، الذي دَرَسَ في الجامعة الإسلامية المراحل العليا الثلاث (البكالوريوس والماجستير والدكتوراه)، وكذلك الشيخ عبدالغني حسن جاسوبا، وهو من أوائل خريجي الجامعة الإسلامية [1400]، الذي أصبح في 1435 حاكما لجزر الملوك في الشمال الشرقي لإندونيسيا، التي تضم أكثر من 1700 جزيرة من مجموع تعداد جزر الأرخبيل، والدكتور أوائل أبصار عبدالله، مدير الشبكة الإسلامية الليبرالية في إندونيسيا ومعهد الحرية، وهو على الرغم من دراسته في السعودية لا يتفق مع الفكر السلفي في كثير من التوجهات، لكنه هو وأمثاله شواهد على النقيض التام مما تفوه به عقيل سراج، الذي حصل على الدكتوراه في جامعة «أم القرى»، ومن المفارقات أن مشرفه على الرسالة أستاذ أزهري، الدكتور محمود أحمد خفاجي، فالجامعات السعودية السلفية لم تكن متعصبة أو متحيزة ما دامت الغاية هي التبادل المعرفي. كما أن «سعيدا» يعلم أن إمام الأزهر، الذي يشتكي إليه من مخرجات الجامعات السعودية، كان أحد أساتذة كبرى هذه الجامعات، وهي جامعة الإمام، ولم يَحُل انتسابه إلى الطرق الصوفية دون استفادة الجامعة منه. وهناك مفارقة أخرى هي أن رسالة الدكتور سعيد، التي بحثها وناقشها برحاب قسم العقيدة في «أم القرى»، كانت عن «علاقة الله بالكون في التصوف الفلسفي»، الأمر الذي يدحض جوابه لشيخ الأزهر بأن الفلسفة كانت محرمة عنده، أي في السعودية.
النتيجة التي ينتهي إليها المقال: إنه حان الوقت لتتحرر العقول المسلمة الصادقة من دعاية الصهاينة والإيرانيين، ومن وراءهم من المراكز البحثية الدولية والهيئات المروجة للبدع الخرافية في الإسلام، التي ساءنا جميعا أن تدعو المملكة العربية السعودية إلى تنقية الإسلام من الخرافة، والعودة به غضا كما أنزله الله، قريبا للعقول والقلوب، فعملوا على وصمه بالتطرف وتشجيع الإرهابيين بدعاوى الانتساب إليه.
إن من يزعم أن السعودية سبب التطرف هو من الانحراف الفكري بمنزلة من يزعم أن ذا الخويصرة كان نتاجا للرسالة النبوية، وأن الخوارج الأزارقة كانوا نتاجا لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه.