هناك من انعزل انعزالاً شبه تام طوى من خلاله علاقته بمعظم أدوات التواصل ومعززات العلاقات الاجتماعية، حتى بعد أن تم رفع الحظر الذي كان مفروضاً على الجميع في أوقات سابقة، فيما أفرط آخرون في ذلك، فابتعدوا عن كافة أفراد الأسرة ابتعاداً كليا قطعوا فيه سبل أواصر القربى وحبال المودة، وقد كان ديدنهم خلاف ذلك قبل أن تحل بهم وبنا هذه الجائحة.
هذا العزوف أدى إلى تكوين فجوة عاطفية بين العائلات، تسببت في خلق نوع من الحنق والغضب فيما بينهم، لاسيما من لدن الآباء والأمهات الذين يرون أن هذا العزوف هو عزوف غير منطقي في ظل التسهيلات التي طرأت مؤخراً من رفع الحظر الذي باعد بين الناس بشكل جذري في أيام خلت، في تقديري أن هذا التمنع لا يعني بالضرورة المجافاة الأبدية التي تحط في دائرة قطيعة الرحم المنهي عنها شرعاً وعرفاً، لوجود علة قاهرة أرغمتهم على هذا التصرف، وهي خشية انتقال العدوى، وإن كنت لست من دعاته ولا أحبذ هذا السلوك، على كل حال ومن هذا المنطلق أجدني راغباً في قَول أمرٍ ما له علاقة بهذا الموضوع، ألا وهو دعوتي لهؤلاء بأن يحملوا في دواخلهم شيئا من الغيظ والامتعاض على من تفادوا الاقتراب منهم، وفضلوا تجنب الاحتكاك بهم، وألا يكثروا عليهم اللوم وأن يلتمسوا لهم الأعذار، فربما وجدت ظروف قاهرة أحاطت بهم، ولا قبل لكم بعلمها أو معرفة حقائق أوجاعهم، يوماً ما سوف يبوح لكم الأبناء والإخوة عن علة تلك القطيعة، وسيأتي اليوم الذي تتعانق فيه الأجساد في أعياد كثيرة بحرارة الاشتياق، سيأتي اليوم الذي تذرف فيه الدموع فرحاً وتحتضن فيه الأم فلذات أكبادها، ويقبل الأبناء جبين آبائهم، سوف يأتي ذلك اليوم الذي يتفاجأ فيه كثير ببوح من أصيب من حولهم دون أن يبلغوهم أو يشعروهم بذلك، ولا بحجم المعاناة التي كبلتهم وأبطأت حضورهم، آثروا في تلك اللحظات الابتعاد لمصلحة أسمى ولأسباب ليس من ضمنها الإساءة للآخرين بالطبع، فهذا الاحتمال غير وارد أبداً.
يوماً ما ستنتهي الأزمة وتزول وتندثر وتصبح ذكرى أو تهمل في عالم النسيان وسوف تبهرنا القصص المؤلمة التي عاش سيناريوهاتها كثير ممن نحب، حين تقوقعوا بين الجدران الأسمنتية وخلف هاتيك الأبواب المغلقة بإحكام رغماً عنهم.