هناك سؤال أساسي وجوهري يفرض نفسه بإلحاج على ضمير الإنسان العربي المفكر، كلما أمعن النظر في مأساوية الحياة العربية المعاصرة. ففي نهاية كل مرحلة من مراحل تاريخ العرب الحديث يعود هذا السؤال ويرتسم علامة استفهام محيرة، منهكة، جارحة في صميم المعاناة العربية... ودون جواب ودون أمل، فهذا السؤال ليس خاصا بهذه المرحلة الراهنة، بل هو كاللحن المتكرر في السيمفونية العربية الحزينة الناقصة، يأتي بعد كل مقطع مجهض من مقاطعها ليعيد المغزى الأزلي المحتوم، كما يعيد الكورس في التراجيديا الإغريقية حكم القدر الثابت على المصير البشري الفاجع.
السؤال باختصار: لماذا لم تحسم الأمة العربية مصيرها وتكمل نهضتها وتحقق أهدافها ووحدتها، كما فعلت أمم شرقية كثيرة غيرها كاليابان والصين وفيتنام والهند، على الرغم من أن الأمة العربية بدأت نهضتها الحديثة قبل تلك الأمم أو معها، ومرت بتجارب وإجهاضات مماثلة وربما أكثر. ولكن الفارق أن خرجت تلك الأمم من معاناتها ملتحمة، صلبة، ناهضة، منتجة، تعرف طريقها ومكانها في العالم، وتقوم بدورها واثقة بنفسها، مجدة عاملة.. بينما الأمة العربية تخرج من تجربة لتدخل في أخرى، وتخرج من إجهاض لتقع في الآخر دون نتيجة ثابتة محققة.
لماذا؟ كيف؟ وإلى متى؟ ومن المسؤول؟
لا أحد يملك الجواب - لا القادة ولا المفكرون ولا الأحزاب ولا الشعوب - أو على الأقل لم يتفق العرب على حل واحد حاسم للسؤال - المعضلة يلتزمون به ويمضون جميعا لإنجازه. وإذا سمعت أجوبة أو أشباه أجوبة فكلها تناقض بعضها بعضا، ويلغي أحدها الآخر في حومة الصراع الداخلي بجسم الأمة، والنتيجة صفر، أو ما دون الصفر بكثير:
قبل أسابيع اقترح المفكر قسطنطين زريق أن تنشأ مؤسسة أبحاث من كبار الباحثين تجيب لنا عن سؤال واحد: لماذا استطاعت اليابان تحقيق الوحدة والنهضة والتصنيع الرائع وأخفقنا نحن العرب؟ وهذا الاقتراح يدل على أن الفكر العربي لم يتوصل بعد إلى إجابة عن هذا السؤال الأساسي.
وفي ندوة أزمة التطور الحضاري التي عقدها المفكرون العرب بالكويت عام 1974 كان هذا السؤال هو الغيمة السوداء التي خيمت على المؤتمر. وكان الدكتور شاكر مصطفى أدق المشاركين تعبيرا عن مأساوية السؤال حين قال: لماذا تطلب وفاق العرب مع العصر كل هذا الوقت الطويل، ودون كبير جدوى؟
هذا السؤال المصيري النازف كالجرح في ضمير كل عربي ملتزم إذا كان ما يزال يأخذ يوما بعد يوم أبعادا مأساوية متزايدة فلأنه قد مضت على ارتطام هذه الأمة بالحضارة الحديثة سنون بعيدة، بعيدة كتلة الأقاليم العربية، مضت عليها الفترة الزمنية الكافية لتكون في مستوى العصر وتكنولوجيته وفيضه الحضاري معظمها على الأقل انطلق قبل الصين التي بدأت منذ ربع قرن.. وبعضها قبل اليابان التي بدأت منذ مائة سنة، ومع ذلك فهذه الأمم وصلت. كلها وصلت. بينما لم يصل أي إقليم عربي طليعي طبيعي إلى شيء بعد... مأساوية السؤال إنما تنبع من احتمالات الأجوبة عليه: فهل وصلت الأمة حقا مرحلة الشيخوخة، فهي إلى الإدبار والعقم الحضاري؟ أم أضاعت الطريق، أم ثمة من الأمراض المعقدة في تكوينها العام ما يشل المفاصل؟.. تلك هي المسألة.
أجل تلك المسألة: بعد انهيار نهضة محمد علي الكبير برز هذا السؤال، بعد ذبول عصر إسماعيل وثورة عرابي عاد السؤال، بعد فشل الثورة العربية - الأولى في توحيد المشرق بفعل التقسيم الإنجلو - فرنسي تكرر السؤال - بعد إخفاق العرب في منع قيام إسرائيل عام 1948، وتهاوي العهود البرلمانية أعيد السؤال. بعد هزيمة 1967 كان لابد من السؤال - واليوم ما زال مسألة المسائل... وأخشى أن يجد أطفالنا بعد جيل آخر وإجهاض آخر أمام السؤال ذاته، إلا إذا تعلمنا وعلمنا أطفالنا كيف تتحول علامة الاستفهام إلى علامة فعل، وكيف ينقلب السؤال إلى جملة فعلية.
1978*
* كاتب بحريني «1939 - 2024».
السؤال باختصار: لماذا لم تحسم الأمة العربية مصيرها وتكمل نهضتها وتحقق أهدافها ووحدتها، كما فعلت أمم شرقية كثيرة غيرها كاليابان والصين وفيتنام والهند، على الرغم من أن الأمة العربية بدأت نهضتها الحديثة قبل تلك الأمم أو معها، ومرت بتجارب وإجهاضات مماثلة وربما أكثر. ولكن الفارق أن خرجت تلك الأمم من معاناتها ملتحمة، صلبة، ناهضة، منتجة، تعرف طريقها ومكانها في العالم، وتقوم بدورها واثقة بنفسها، مجدة عاملة.. بينما الأمة العربية تخرج من تجربة لتدخل في أخرى، وتخرج من إجهاض لتقع في الآخر دون نتيجة ثابتة محققة.
لماذا؟ كيف؟ وإلى متى؟ ومن المسؤول؟
لا أحد يملك الجواب - لا القادة ولا المفكرون ولا الأحزاب ولا الشعوب - أو على الأقل لم يتفق العرب على حل واحد حاسم للسؤال - المعضلة يلتزمون به ويمضون جميعا لإنجازه. وإذا سمعت أجوبة أو أشباه أجوبة فكلها تناقض بعضها بعضا، ويلغي أحدها الآخر في حومة الصراع الداخلي بجسم الأمة، والنتيجة صفر، أو ما دون الصفر بكثير:
قبل أسابيع اقترح المفكر قسطنطين زريق أن تنشأ مؤسسة أبحاث من كبار الباحثين تجيب لنا عن سؤال واحد: لماذا استطاعت اليابان تحقيق الوحدة والنهضة والتصنيع الرائع وأخفقنا نحن العرب؟ وهذا الاقتراح يدل على أن الفكر العربي لم يتوصل بعد إلى إجابة عن هذا السؤال الأساسي.
وفي ندوة أزمة التطور الحضاري التي عقدها المفكرون العرب بالكويت عام 1974 كان هذا السؤال هو الغيمة السوداء التي خيمت على المؤتمر. وكان الدكتور شاكر مصطفى أدق المشاركين تعبيرا عن مأساوية السؤال حين قال: لماذا تطلب وفاق العرب مع العصر كل هذا الوقت الطويل، ودون كبير جدوى؟
هذا السؤال المصيري النازف كالجرح في ضمير كل عربي ملتزم إذا كان ما يزال يأخذ يوما بعد يوم أبعادا مأساوية متزايدة فلأنه قد مضت على ارتطام هذه الأمة بالحضارة الحديثة سنون بعيدة، بعيدة كتلة الأقاليم العربية، مضت عليها الفترة الزمنية الكافية لتكون في مستوى العصر وتكنولوجيته وفيضه الحضاري معظمها على الأقل انطلق قبل الصين التي بدأت منذ ربع قرن.. وبعضها قبل اليابان التي بدأت منذ مائة سنة، ومع ذلك فهذه الأمم وصلت. كلها وصلت. بينما لم يصل أي إقليم عربي طليعي طبيعي إلى شيء بعد... مأساوية السؤال إنما تنبع من احتمالات الأجوبة عليه: فهل وصلت الأمة حقا مرحلة الشيخوخة، فهي إلى الإدبار والعقم الحضاري؟ أم أضاعت الطريق، أم ثمة من الأمراض المعقدة في تكوينها العام ما يشل المفاصل؟.. تلك هي المسألة.
أجل تلك المسألة: بعد انهيار نهضة محمد علي الكبير برز هذا السؤال، بعد ذبول عصر إسماعيل وثورة عرابي عاد السؤال، بعد فشل الثورة العربية - الأولى في توحيد المشرق بفعل التقسيم الإنجلو - فرنسي تكرر السؤال - بعد إخفاق العرب في منع قيام إسرائيل عام 1948، وتهاوي العهود البرلمانية أعيد السؤال. بعد هزيمة 1967 كان لابد من السؤال - واليوم ما زال مسألة المسائل... وأخشى أن يجد أطفالنا بعد جيل آخر وإجهاض آخر أمام السؤال ذاته، إلا إذا تعلمنا وعلمنا أطفالنا كيف تتحول علامة الاستفهام إلى علامة فعل، وكيف ينقلب السؤال إلى جملة فعلية.
1978*
* كاتب بحريني «1939 - 2024».