يُقال: «كل آتٍ قريب»، وليس لدي أدنى شك في أن اليوم الذي سيُصبح فيه الفحص الجيني المتكامل جزءًا لا يتجزأ من الملف الصحي لكل مواطن ومقيم في المملكة العربية السعودية قادمٌ لا محالة، وآمل أن يكون ذلك قريبًا. فالأمر لا يقتصر على أهميته الصحية والعلمية، بل لأن التطور في التكنولوجيا الطبية أشبه بموج عارم أو تسونامي لا يمكن إيقافه، تمامًا كما حدث مع الإنترنت والهواتف المحمولة، والتطور والتقنية لا يعترفان بالحواجز.

لقد كتبنا ونادينا مرارًا وتكرارًا بأهمية الفحص الجيني والاستفادة من إمكانياته. بل إننا، من كثرة حديثي عنه، أكاد أجزم أن زملائي في الصحافة في صحيفة «الوطن» أصبحوا خبراء في هذا المجال رغم أنهم ليسوا أطباء! لكن لا بأس بالتكرار، فالتذكير مطلوب حين يتعلق الأمر بمستقبل الطب والصحة العامة للبلد.

منذ سنين نعيد ونكرر أن الطب في المستقبل سيرتكز على أربعة أركان أو أعمدة:


1. الذكاء الاصطناعي، الذي سيعيد تشكيل الطب ويدخل في جميع جوانب الرعاية الصحية، بدءًا من التشخيص وحتى العلاج واتخاذ القرارات الطبية الدقيقة، تكلمنا كثيرا عن الذكاء الاصطناعي سابقا قبل أن تبدأ موجة الذكاء الاصطناعي الحالية، والتي في نظرنا شيء جيد وزادت وعي الناس بأهمية الذكاء الاصطناعي في كل المجالات ومنها الطب.

2. الروبوتات، التي ستلعب دورًا أساسيًا في تقديم الرعاية الصحية، وإجراء العمليات الجراحية، والتعامل مع المرضى بطرق أكثر أمانًا وكفاءة.

3. الطب التجديدي، الذي يُعرف بطب المستقبل، ويشمل العلاجات بالخلايا الجذعية والعلاج الجيني وغيرها. عندما قررت الدخول في هذا المجال قبل ما يقارب عقدين، قوبلت بدهشة من قِبَل الزملاء والأصدقاء، إذ كانوا يرونه مجالًا نظريًا يحتاج لعقود حتى يتحقق. واليوم، أصبح الطب التجديدي في طليعة الحلول الطبية لعلاج الأمراض المستعصية، والتي لا يمكن علاجها بالطرق التقليدية! بل الآن أصبح العديد من الأطباء في تخصصات مختلفة يسعون لاكتساب مهارات في هذا المجال ليتميزوا في تخصصاتهم؛ لأن هذا الطب دخل في كل فروع الطب الأخرى.

4. الطب الشخصي (الدقيق)، وهو الطب الذي يعتمد على التحليل الجيني لتحديد العلاجات الأنسب لكل فرد، بناءً على تكوينه الجيني الفريد. فمنذ فك شفرة الجينوم البشري، الذي استغرق 13 عامًا وكلف نحو 3 مليارات دولار، انخفضت مدة الفحص إلى 48 ساعة فقط، وأصبحت تكلفته أقل من ألف دولار، مقارنة بالمليارات التي كانت تُنفق سابقًا. الانتقال من 3 مليارات إلى أقل من ألف دولار حدث بسرعة نسبيًا، مما جعله متوفرًا للجميع.

إن الفحص الجيني ليس رفاهية بل أهمية! بعض الفحوصات العادية في المستشفيات تكلف أكثر من 1000 دولار؛ بينما فائدتها مؤقتة ولوقت معين، بينما فحص التسلسل الجيني فائدته تبقى مدى الحياة ويعمل مرة!

إن تقدم التكنولوجيا السريع جعل التسلسل الجيني الشامل متاحًا زمنيًا. وماديًا لعامة الناس، وأصبح من الممكن من خلاله:

• اكتشاف أكثر من 6.000 مرض واضطراب جيني.

• تحديد الاستعداد الوراثي للأمراض المزمنة مثل أمراض القلب والسرطان.

• معرفة الأدوية المناسبة وغير المناسبة لكل شخص بناءً على تكوينه الجيني، مما يقلل من الأعراض الجانبية ويحسن فعالية العلاج.

• تحديد التحسس الدوائي، مما يساعد في تجنب الأدوية التي قد تُسبب مضاعفات خطيرة.

• تحسين التغذية واللياقة بناءً على التحليل الجيني، مما يعزز الصحة العامة والوقاية من الأمراض.

• تقليل التكاليف الصحية عبر الانتقال من العلاج إلى الوقاية، وهو ما يوفر مبالغ طائلة على الأنظمة الصحية.

• دعم اقتصاد الرعاية الصحية من خلال توجيه الموارد نحو الوقاية بدلًا من علاج الأمراض بعد حدوثها.

سيأتي اليوم الذي يصبح فيه الفحص الجيني عامًا وجزءًا أساسيًا من النظام الصحي، والسؤال ليس «هل سيحدث؟» بل «متى سيحدث ؟». وبما أن المملكة من الدول الرائدة عالميًا في تبنّي التكنولوجيا والابتكار، فإننا نتطلع إلى أن يكون هذا اليوم قريبًا. وحينها، قد يظهر الكثير ممن يدّعون أنهم أول من نادى به، وربما بعض من يؤخرون تطبيقه سيشجعونه! وهذا لا يهم لكل إنجاز سيخرج من يدعي البطولة!، ولكن الأهم من ذلك هو أن يُطبّق، لأنه سيُحدث نقلة نوعية في صحة المجتمع، ويقي الأفراد من الأمراض قبل حدوثها، ويحسّن جودة الحياة للجميع.