طَرحَ سؤالُ «الحقيقة» نفسَه على التاريخ الإنساني، دارتْ في فَلَكِهِ نشاطاتُ الفكرِ وانشغالاتُ العقل. ظل السؤالُ مطروحًا، فيما تغيرتِ الإجابةُ عبر الحقبِ الحضارية. ففي الحقبة البدائية، في عصرَيْ الصيد والرعي، تجلت الحقيقةُ في ثيابِ أسطورة. والأسطورة، ابتداءً، وليدةُ فكرٍ خرافي يَنتمي إلى عالَمٍ سحري، سابق على العالَم العقلاني، يَفترض وجودَ صلةٍ عضوية بين كل الكائنات، على الرغم من اختلاف طبيعتها، وبينها وبين الطبيعة حيث علاقة التأثير والتأثر مُتبادَلة.

ومن ثم فإن الأسطورةَ لا تُلبي مُتطلبات الإدراك العلمي، ولا تسعى إلى وصفِ الحقيقة المجردة، فهي ليست عِلمًا ولا فلسفة، ولا تتوفر لها شروط التأمل النظري المُتماسِك، ناهيكَ بشروط المعرفة التجريبية كما نَفهمها الآن، بل هي أقرب إلى ميتافيزيقا شعرية تُجسد حِكمةَ الزمن البدائي، وتُقدم عنها تصوراتٍ مجازية في صُورٍ بلاغية، تُلائِم وعيًا كليا مُباشرًا وبسيطًا، وخصوصًا عندما تحكي عن تاريخ البدايات الكونية: المَنشأ، الميلاد، وخلْق العالَم والإنسان؛ أو تَسرد تصوراتِها عن النهايات: نهاية العالَم، وطرائق الخلاص، ومصير الإنسان، وهي لا تُطالِب مُتلقيها بإعمال العقل فيها، بل مجرد الاعتبار بها.

مناهضة الثورة العلمية


في الحقبة «الكلاسيكية»، أي في عصر الزراعة والإقطاع، تجلت الحقيقةُ في ثَوبِ الميتافيزيقا، التي قدمت لنا تصوراتٍ كلية عن الوجود وأصله، عن طبيعة الخالِق ومصيرِ المخلوقات، حيث تَشاركَ الفكرُ الديني/ الكتاب المقدس مع الفلسفة التأملية/ الاستبطان العقلاني، وخصوصًا حول العلاقة بين الله والإنسان والطبيعة. في الفكر الديني قامتِ العلاقةُ على أساس التمايُز الوجودي بين العناصر التكوينية الثلاثة؛ فالإله خالِقٌ مُتعال، خَلَقَ الكونَ وتسامى عليه، يَنظم حركتَهُ بقوانين حتمية ويُدير حركة التاريخ بسُننٍ اجتماعية، ويَرعى الإنسانَ المؤمنَ بقدرتِه ورَحمته. والإنسان أرقى من الطبيعة، مُستخلَفٌ عليها، قادرٌ على حوارها عبر الواسطة الإلهية. أما الطبيعة، بانتظام حركتها واتساق قوانينها، فهي دليل الإنسان على وجودِ العقل الإلهي الذكي الذي خَلَقَها. كما أن الله هو دليلُ الإنسان إلى فَهْمِ الطبيعة.

أما في الفلسفة التأملية، فيضيقُ هذا التمايُزُ الوجودي أو يتلاشى، حيث تَغيم صورةُ العنصر التكويني الأول، الإله، خَلْفَ حُجُبِ العقل. ففي الفكر اليوناني، وخصوصًا لدى أرسطو، كان الإلهُ قوةً خالِقة ومُتعالية أُطلِقت عليها صفة «المبدأ الأول» أو «واجِب الوجود». وعلى المنوال نفسه نَسَجَ أفلاطون في نظريته عن المُثل التي تتعالى حتى تَبلغ ذروتَها في مثال الخَير. وكذلك أفلوطين الذي جَعَلَ من المثال الأفلاطوني موجِدًا أولًا مُلْهِمًا لسائر الموجودات، فياضًا بالمعرفة على سائر العقول، حيث تتباين مستوياتُ الوجود ودرجاتُ المعرفة، ولكنْ يظل أصلُها المُشترَك هو إرادة علوية مُهَيْمِنة، موجِدة وعارِفة. في تلك الفلسفات جميعًا، نَجد أننا أمام مبدأٍ فائقٍ (واجب الوجود/ المثال الأعلى/ الموجِد الأول) يقول بسمو الحقيقة وثباتِها في مُقابل واقعٍ تتغير ملابساته وشروطه بحسب المكان والزمان، لكنه لا يتوقف عن مُحاكاة المبدأ الفائق، بغض النظر عن نجاحِه أو فَشَلِه.

وعلى هذا، ظل تيارُ المعرفة التقليدية، الدينية والميتافيزيقية، مُحتبِسًا خلفَ ثنائياتٍ شبه مُتضادة وفي الأغلب ساكِنة. كل طَرَفٍ من طرفَيْها بمثابة خَبر عن حقيقةٍ أبدية لا تتغير. إنه المنطق الصوَري القائم على مبدأ عدم التناقُض والثالث المرفوع. فالصدق أبدي، وكذلك الكذب، ولا مكان لموقفٍ ثالث بينهما. وهو المنطق الذي حَكَمَ الفكرَ الإنساني لألفَيْ عامٍ تقريبًا بأدوات المَنهج الاستنباطي؛ وقد نَتَجَ عنه، في سياق المسيحية الغربية/ الكاثوليكية، نزعةٌ اسكولائية (مدرسية) شكلت السلطةَ المعرفيةَ المُهيْمِنة على العصر الوسيط المتأخر، والتي بَلغت أوجها مع القديس توما الأكويني في القرن الثالث عشر، واستماتتْ في مُناهضة الثورة العلمية حتى القرن السادس عشر قَبل أن تبدأ مرحلةُ التفتت والتناثر أمام الفلسفات الحديثة، التي اعتمدتْ جميعها المَنهجَ الجدلي، والمنطق الرياضي، وإنْ بأقدارٍ مُختلفة.

النزعتان النقدية والمادية

أما في الحقبة الحديثة، فتجلت الحقيقة في صورة المعرفة العلمية، حيث توارى سؤالُ الوجود وتقدمت أسئلةُ المعرفة، وأَخذ الإنسانُ يَنظر إلى نفسه ككائنٍ عاقل، قادر على استخدام عقله لبلوغ إدراك موضوعي للعالَم والتاريخ. غير أن الطريق إلى العقلانية الحديثة لم يكُن مُمَهدًا ولا واحدًا، بل اتخذ مساراتٍ مُتباينة في الإجابة عن أسئلة المعرفة نفسها: ما هو مصدرها، هل هو العقل وما ينطوي عليه من مبادئ عامة كلية أو فطرية؟ أم هو الحس والتجربة؟ وأيضًا ما حدودها، فهل هي مُطلَقة، قادرة على بلوغ اليقين إزاء كل القضايا أم نسبية، محصورة في دائرة الاحتمال والترجيح؟ ومن ثم وُلدت نظرية المعرفة ومن رَحَمِها وُلدت مذاهب ثلاثة مُختلفة وَسَمَتْ عصرَ التنوير بطابعها، وشكلت أنماطَهُ المُختلفة بفعل طريقتها المائزة في الدمْج والتركيب بين ثنائيات من قَبيل: الدين والعِلم، الروح والمادة، العقل والحِس.

المذهب الأول هو المثالية الذاتية، ويَعتقد بأن العقلَ، وليس الحِس، هو نقطة انطلاق عملية المعرفة، إذ تَنبع منه وتصب فيه، وتدور في فَلَكِ قوانينه المنطقية ومبادئه الكلية، فهو المبدأ والغاية، البداية والنهاية. ومن ثم تُشكك المثاليةُ الذاتية بوجود ظواهر/ وقائع خارجية مستقلة بنفسها، وترى أن تلك الظواهر/ الوقائع مجرد انعكاس لتصورات الذات الإنسانية العارفة. نحن، إذن، أمام عقلانية مثالية لا تَكترث بالواقع التجريبي، أَفضت إلى ميلادِ شكلٍ أولي غض من التنوير، يُمكن وسْمُه بالروحي، يَفهم الوجود كمعمارٍ يتأسس على قاعدة الذات الإلهية، ويرى فيها ضمانةً أساسية لاشتغال العقل نفسه بما تبثه فيه من مبادئ وأفكار. والحق أن ذلك التنوير الروحي كان بمثابة امتداد للفلسفة المدرسية التي استماتت في التوفيق بين العقل والإيمان، تعويلًا على منطق أرسطو الصوري، واللاهوت المسيحي معًا. وبالأحرى كان تمثلًا موضوعيًا للميتافيزيقيا الحديثة، التي دشنها ديكارت واستمرت بعده لدى باسكال ومالبرانش، كما شهدتْ ذروتَها مع ليبنتز، قَبل أن تتوارى بالتدريج مع سطوع عصر التنوير، ونمو النزعتَيْن النقدية والمادية.

حرارة الإيمان الجواني

والمذهب الثاني هو المثالية التجريبية، الذي أرتادَ أُفُقَهُ الفيلسوفُ إيمانويل كانط، وعُرف معه باسم النزعة النقدية. والمعرفة لديه نشاط مُشترَك للعقل والحواس معًا، يَبدأ من الواقع الذي يمد العقلَ بحدوثٍ تجريبية عن الظواهر والأشياء، ليُعمل فيها العقلُ مقولاتِه الأساسية من قَبيل: الزمان والمكان والعلية. أو يُخضعه لمبادئ العقل الكلية من قَبيل: التوازُن والانسجام وعدم التناقُض. هنا يصير الواقعُ المادي حاضرًا ومُعترَفًا به اعترافًا كاملًا، كنقطةِ انطلاقٍ لعملية المَعرفة؛ لكن العمليةَ نفسَها لا تكتمل إلا من خلال العقل البشري الذي يُمارِس نشاطَه في تنظيم معطيات الحواس وتحويلِها من مجرد مدركاتٍ حسية أو انطباعاتٍ مباشرة إلى مفاهيم كلية ونظرياتٍ علمية.

أَفضتِ النزعةُ النقدية إلى نمطٍ تنويري مُعتدِل، يَرى أن تقدمَ العقل وازدهار الإنسان أمرٌ مُمكن دون نفي الإيمان. لكن هذا التقدم لم يعُد، في المقابل، رهنًا بحضور الإله. فالحقيقة الكلية تتجاوز حدود العقل النظري، تستعصي على الإثبات التجريبي، وعلى النفي التجريبي في آن. لم تقُل النزعةُ النقدية بالإلحاد إذن، غير أنها نَظرتْ إلى الإله كمبدأٍ نظري مجرد، وليس كذاتٍ مشخصة، تَصلح مصدرًا لإيمانٍ متوثب، يُلْهِم الحياةَ الباطنية للإنسان. ومن ثم فَقَدَ مفهومُ الإله مغزاه وصار بالتدريج مهجورًا؛ ذلك أن الإيمان الحي ليس معرفةً عقلية محض، تؤتى ثمارُه بمجرد إدراك الكائن الأسمى، بل هو حالة روح يملؤها الشغفُ بذلك الكائن الأسمى، حتى تكاد تجده في شتى مظاهر الكون. فما يميز الإيمان ليس المفاهيم العقدية له، والتي تحدد مسمى الكائن القدسي: الله، الرب، يهوه، براهمن، رع، زيوس.. إلخ، بل الثقة المُطلَقة في ذلك الكائن الأسمى، الذي خَلق العالَم والإنسان، ولا يزال يرعاهما. مثل هذا الإيمان غالبًا ما يولَد وينمو من دون معرفة تحليلية، فلا يُدرِك المرءُ سره على الرغم من أنه يعيشه. وهنا يظل إيمانه أقوى من كل الشكوك التي تجابهه. أما الذي لا يرى في الإله سوى مبدأ نظري مجرد، ولا يُشرِق الإيمانُ من باطنه، بل يظل ينتظر تعاليمه من خارجه، فيبقى مُعرضًا للشكوك التي تعاوده وتشل فعاليتَه. لذا فإن الإيمان الحار بإلهٍ باطل يؤثر في نفْس الإنسان ويَمنحه دوافع للحياة وللتضحية أكبر من الإيمان البارد بإلهٍ حقيقي. فالفاعلية الإنسانية تَبلغ ذروتَها بفعلِ حرارة الإيمان الجواني، وليس بصدق المفاهيم العقدية. ومن ثم ندعي بأن مذهب التأليه الطبيعي، إذ قلص الشعورَ باليقين وأَوجد نزعاتِ شك عميق في السردية الكبرى عن الألوهية والدين، كان أشبه بمحطة انتقالية أو فندقٍ للراحة على الطريق بين الدين/ المسيحية والإلحاد.

صعود المادية

أما المذهب الثالث فهو التجريبية الحسية، التي تقول بأولوية الحِس على العقل، وبأن التجربة القائمة على مُعطيات الحواس وحدها هي مَصدر المَعرفة؛ فالعالَم المادي يَنعكس على العقل مباشرةً وكأنه سطحٌ أَملس أو مرآة عاكسة، ليس لديه مبادئ كلية تُشرَع له، ولا مقولات أساسية تَنظم عملَه ولا تصورات خاصة به. وهنا نُصبح أمام عقلانيةٍ مادية لا تَعترف إلا بما تلتقطه الحواس مباشرةً من ماهياتٍ وأشياء، ولا تُثمن سوى الاستقراء التجريبي المباشر، فيما تُدير ظهرَها لكل المفاهيم التي تعلو على عالَم الأشياء، ولا تتجسد في أشكالٍ محسوسة، ما يعني تجاهُل مختلف المقولات والمبادئ الكلية التي تشكل طبيعةَ العقل أو ماهيته، والتي يَذهب كثيرون إلى أنها الحاضنة الأساس للإيمان الديني، باعتباره الجانب الغَيبي/ المُتسامي في الوجود الإنساني.

قادتْ تلك المدرسةُ المعرفية إلى نمطِ التنوير الراديكالي؛ فالعِلم هو السبيل الوحيد للوصول إلى الحقيقة من دون أي دعْمٍ من مفاهيم ما ورائية على رأسها الدين، بل إن الدينَ نفسه صارَ قابلًا للتفسير من خلال أنشطة العقل الإنساني، مثله مثل نظام الطبيعية الذي تم اكتشافه بدعْمِ العِلم التجريبي، أو مثل بنية المُجتمعات وأنماط التطور التاريخي التي فككتها العلومُ الإنسانية. هكذا أُدخل الدين قسْرًا في مُباراةٍ صفرية مع العِلم. ومع كل تقدمٍ للعِلم كان مُفترَضًا أن يَنسحب الدينُ ويَعترف بهزيمتِه، وأن يَختفي تدريجيًا باكتمال تطور العِلم وتأسيس سلطته الجديدة على الحقيقة، حتى صارَ رفْضُ الدين معيارًا لاستنارة الإنسان الحديث. وعلى الرغم من أن الإلحاد، كما نعرفه اليوم، لم يكُن متصورًا حتى منتصف القرن الثامن عشر، إذ اعتبره فولتير «شرًا شائهًا غير طبيعي»، فقد صارَ الطريقُ إليه مفتوحًا منذ صدرتِ الموسوعةُ الفرنسية، وبالذات مع صعود المادية الألمانية منتصف القرن التاسع عشر، ومن ثم انتهى التنويرُ الراديكالي إلى التشكيك بوجود الذات الإلهية، وفي أصول فكرة الدين، طارحًا حولهما عشرات الأسئلة، حتى انتهى الأمر بإعلان، السردية الأكبر في تاريخ الوعي الإنساني، الأمر الذي فتحَ البابَ على متواليةِ النهايات لسردياتٍ وأنساقٍ أخرى كالفلسفة والإيديولوجيا والتاريخ.

*كاتب من مصر

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.