ويبدو لي أن اختيار الألفاظ ذاتها كان راجعًا إلى مؤثرات أجنبية، مباشرة أو غير مباشرة.
فقد شاع في بلادنا مصطلح (الأصالة) ترجمة للمصطلح الفرنسي Authenticité الذى استخدمه بعض المفكرين الغربيين المعنيين بأمور العالم الثالث، ووضعوه في مقابل مصطلح الحداثة «Modernité» الذى يقترب معناه المقصود كثيرًا من لفظ (المعاصرة).
وكان من أهم هؤلاء المفكرين الغربيين، المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي جاك بيرك الذى عمل على ترويج هذا المصطلح في كتبه، وبين تلاميذه من العرب، وهم كثيرون، ومعظمهم يحتل في حياتنا الثقافية مكانة مهمة. وأنا لا أزعم أنني أتتبع تاريخ هذين المصطلحين، بل إنني أتمنى أن يقوم بهذه المهمة باحث جاد، يكشف لنا بدقة عن الظروف التي أدخلا فيها، في حياتنا الثقافية للمرة الأولى، ولكن إذا صح أن مفكرًا غربيًا هو الذي يرجع إليه الفضل في إشاعة هذه الصيغة في جونا الثقافي، في العقدين الأخيرين، كانت هذه الحقيقة، في حد ذاتها، مظهرًا من مظاهر الأزمة، ومفارقة لا تخلو من السخرية المريرة، أعنى أن يستعير مثقفو أمة من الأمم من حضارة أخرى نفس الصيغة التي يريدون أن يعبروا بها عن رغبتهم في الاستقلال الفكري عن الآخرين والعودة إلى جذورهم وبعث كل ما هو مضيء في تراثهم.
على أية حال، ظهرت صيغة «الأصالة والمعاصرة» في حياتنا الثقافية في وقت ما خلال العقدين الأخيرين (على الأرجح)، وسرعان ما تلقفتها أيادي الكتاب والباحثين، وكونت نواد أساسية تحلقت حولها بلورة ظلت تتضخم وتتضخم حتى ضمت في داخلها قدرًا كبيرًا من نتاجنا الفكري والثقافي منذ فترة ظهورها.
وشاعت الصيغة بين الكبار والصغار، وأصبحت حاضرة في كل الندوات والمؤتمرات والحلقات، وصارت ضيفًا دائمًا على مجلاتنا الفكرية وصفحاتنا الأدبية، وأصبح كل مفكر يستضيف شابًا مثقفًا يود أن يجرى معه حديثًا أو مقابلة، يتوقع سؤالًا واحدًا على الأقل حول مشكلة الأصالة والمعاصرة، ويصدق توقعه في الغالبية الساحقة من الحالات.
خلال هذا كله لم يتوقف أحد لكى يحلل الصيغة نفسها، ويتبين مدى ندرتها على التعبير عن المشكلة المطروحة. وهذا للأسف أمر شائع في جونا الثقافي، إذ تطرح الصيغ فتتداوله الألسن على الفور دون أن يتوقف أحد لكي يتساءل عن مدى سلامة الصيغة ذاتها ودقتها وحين تكون الصيفة غير دقيقة، ينعكس ذلك سلبًا على كل الجهود الفكرية التي نبذلها في سبيلها.
وفى اعتقادي أن من المفيد إلى أقصى حد أن نتريث قليلًا لكى نحلل هذه الصيغة التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الحياة الثقافية على مستوى العالم العربي كله.
1980*
*أكاديمي مصري متخصص في الفلسفة «1927-2010»