هادي اليامي

مرة أخرى تجمع رابطة العالم الإسلامي علماء الأمة وممثلي المذاهب والطوائف الإسلامية الذين تدافعوا من كل دول العالم للمشاركة في النسخة الثانية من مؤتمر (بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية)، الذي ركز على التصدي للتحديات التي تواجه الأمة الإسلامية وفرص تجاوزها، والبحث في كيفية التوافق على المشتركات التي تجمع أبناء القبلة الواحدة، وتجاوز أوجه الخلاف الشكلية، ورسم معالم مضيئة تسهم في بناء جسور من الإِخاء والتعاون.

وتوفرت للمؤتمرين قدسية المكان وحرمة الزمان، حيث التقوا جوار بيت الله الحرام وعلى مقربة من الكعبة المشرفة، وفي شهر رمضان المعظّم، وانخرطوا في نقاشات معمّقة تحت رعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - حيث أتيح لكل المشاركين التحدث بمنتهى الحرية وكانوا جميعا على قدر المسؤولية، فجاءت المخرجات بحجم الطموحات، حيث لم يكن اجتماعهم مجرد لقاء حواري تقليدي، بل مثّل نقلة نوعية نحو إقرار آليات عمل مشترك قابلة للقياس والتطبيق.

ومما أكسب المؤتمر أهميته البالغة أنه يأتي في ظرف دقيق ومنعطف تاريخي تمر به الأمة الإسلامية التي تواجه تحديات مصيرية، مما استلزم ضرورة البحث عن سبل توحيد كل الجهود واستنفار كل المقدرات، لتجاوز العقبات والتغلب على أسباب الخلاف والتمسك بالقواسم المشتركة لتكون أمة واحدة قادرة على البقاء والاستمرار.

ومن المفارقات التي كان لا بد من التوقف عندها أن الإسلام الذي كان أول ما دعا إليه هو التمسك بحبل الله المتين، وأعلى من شأن الوحدة التي هي مفهوم إسلامي عظيم، إلا أن أتباعه عانوا من حالة انقسام حادّ بين أتباع المذاهب الدينية التي ابتدعوها بأنفسهم وما كتبها الله عليهم. وأسهمت هذه التباينات في بروز نزاعات تطورت في بعض الأحيان إلى تطرف عنيف.

إزاء ذلك الوضع تنادى عقلاء الأمة من جميع المكونات إلى محاولات رأب الصدع والاعتصام بالثوابت والحوار حول التفاصيل، واجتهدوا لوضع الاختلاف في إطاره الصحيح باعتباره عنصر غنى وثراء وليس بالضرورة أن يكون مبعث نزاع وشقاق. كما تم عرض العديد من المبادرات التي سعت إلى تقريب وجهات النظر بين أتباع الطوائف والمذاهب.

إلا أن المأخذ الرئيسي على تلك المحاولات أنها لم تناقش أسباب الاختلاف بصراحة ولم يتم استعراضها بدقة. كما أن معظم تلك اللقاءات كانت مجرد تعبير عن حسن النوايا أو من باب المجاملة، حيث كانت التوصيات التي تصدر عنها توضع في الأدراج دون أن تتحول إلى برامج عملية ملموسة. إلا أن هذا المؤتمر سعى بجدية لتجاوز هذه المثالب، حيث تم التركيز على استنباط آليات قابلة للتنفيذ تعزز روح الاعتدال، وتدعم العيش المشترك بين أتباع المذاهب المختلفة، مع احترام الخصوصيات المذهبية وعدم المساس بحقوق أتباعها.

كما اتفق المؤتمرون على إطلاق مشاريع تعزّز التعاون الفعلي بين المذاهب، بدلًا من الاكتفاء بالخطابات التوافقية، وتبني آليات للقياس والتقييم لضمان تنفيذ التوصيات على أرض الواقع، وإنشاء منصات علمية ومؤسسية لتطوير خطاب إسلامي يجمع بين الأصالة والاعتدال، والانتقال من مرحلة الحوارات الإنشائية إلى حالة العمل المشترك.

ومن أبرز ما توافق عليه المؤتمرون إعلانهم تبنّي (موسوعة المؤتلف الفكري الإسلامي) التي أعدّها مركز الحماية الفكرية بالسعودية، والعمل على التعريف بها، ونشرها في مختلف الأوساط العلمية والمناسبات الدولية؛ لتكون خريطة طريق للعلاقات بين المذاهب الإسلامية، وفق مفهوم المشترك الإسلامي الجامع.

كذلك كان في غاية الأهمية تحذيرهم الواضح من تبعاتِ ما تشهدُهُ بعضُ الوسائط الإعلامية من سِجالاتٍ سالبة تُوغر الصدور وتثير النزاع والفرقة، فأعداء الأمة، وإن كانوا في ثياب بعض أبنائها، هم الذين يدعون لاستمرار حالة النزاع والشقاق.

لذلك فإن النجاح الذي تحقق، خلال هذا المؤتمر، الذي أحسب أنه سوف يشكّل علامة فارقة في تاريخ الأمة كان نتيجة للعمل الجاد والمؤسسي الذي قامت به الدولة المضيفة، فقد كان التنظيم دقيقا ورائعا، والمشاركون تم انتقاؤهم بعناية تامة. لذلك أتى الحوار شفافا وصادقا، ومعبرا عن أشواق عقلاء الأمة في نزع فتيل الخلافات، والعمل على ترسيخ المشتركات الكثيرة التي يمكنها أن تكون أرضية ثابتة يقف عليها الجميع.

فالمملكة حرصت منذ توحيدها على إرساء عوامل الوحدة واجتناب أسباب الفرقة، ودأبت طيلة تاريخها على تأكيد أهمية التواصل بين قادة المذاهب الإسلامية، ودعت مرارا وتكرارا إلى إزالة الحواجز المفتعلة بين المسلمين، وتجاوز العقبات المصطنعة، والتصدي لكل مثيري الأزمات، واستضافت العديد من جولات الحوار بين أبناء الدين الواحد الذين مهما تعددت مدارسهم ومذاهبهم فإنهم في الآخر يتوجهون نحو قبلة واحدة ويجمعهم القرآن وتوحد بينهم ثوابت الإسلام.

والسعودية عندما تتبنى هذه الرؤية الواضحة الناصعة فإنها تنطلق من إدراكها لمكانتها الروحية الفريدة كمهبط للوحي وحاضنة للحرمين الشريفين وقائدة للعالم الإسلامي. لذلك فهي تعمل على تكريس ثقافة التعايش والتسامح والتكامل بين جميع المذاهب. وتؤمن أن الاختلاف بين الناس هو من سنن الله في الكون. لذلك أخذت على نفسها واجب الدعوة للحوار، في وقت كان فيه البعض يدعو بكل أسف للفئويات والعصبيات داخل الجسد الإسلامي.

إن كان من توصية فهي للإخوة في رابطة العالم الإسلامي وأمينها العام الأستاذ الدكتور محمد العيسى، وأحسب أنه لا يفوت عليه ذلك لما عرف عنه من حرص على لم الشمل ووحدة الكلمة، لكنه من باب التذكير بالعمل على تجسيد مخرجات هذا الاجتماع التاريخي إلى واقع عملي، لأن ذلك سوف يكون بداية عهد جديد لوحدة الأمة لا يصبح فيه التقارب المذهبي مجرد فكرة، بل حقيقة نعيشها.