محمد إبراهيم الحسيني

كان الجنرال نورمان شوارزكوف يجلس في قاعة المحاضرات، محاطًا برجال الأعمال والمديرين التنفيذيين، وقد دُعي لإلقاء كلمة عن القيادة، فبعد أن حصد نجاحا عسكريا باهرا، أصبح مستشارا تُطلب حكمته في ساحات أخرى. لكن هذه المرة لم يكن أمام جيش، بل أمام رجال يرتدون البدل الرسمية، ويملكون شركات بمليارات الدولارات. وقف بهدوء، تفحص الحضور بعينيه الحادتين، ثم قال بصوت هادئ لكنه يحمل نبرة القائد: «سأخبركم بقصة».

ساد الصمت، واستطرد: بعد تقاعدي، استُدعيت إلى شركة صناعية أمريكية كبرى كانت على شفا الانهيار. تقارير الإنتاج كانت كارثية، والموظفون غير مبالين، والإدارة غارقة في نظريات معقدة دون أي تأثير حقيقي. عندما وصلت إلى هناك استقبلني رئيس الشركة بحفاوة، وأخذني في جولة بين المكاتب الفاخرة، حيث يجلس المديرون خلف طاولات ضخمة، محاطين بشاشات تعرض مخططات بيانية لا يفهمونها حقا. لاحظت أن شيئا مهما كان مفقودًا: لم يكن هناك أي اتصال بين هؤلاء القادة والعاملين في المصنع.

توقف للحظة، ثم قال: في الجيش إذا كنت تريد كسب احترام جنودك، فلا يمكنك البقاء في المقر العام وإصدار الأوامر من بعيد. عليك أن تكون بينهم، تفهم معاناتهم، وتشاركهم انتصاراتهم، وهذا ما قررت فعله في هذه الشركة.

في صباح اليوم التالي، ارتدى شوارزكوف زي العمل بدلا من البدلة الرسمية، وتوجه إلى المصنع دون إخطار مسبق. تجول بين خطوط الإنتاج، وتحدث إلى العمال، وسألهم عن المشكلات التي يواجهونها. كان أول ما لاحظه أن الموظفين يشعرون بأنهم غير مرئيين، مجرد أرقام في تقارير لا يهتم بها أحد. كان هناك شعور عام بالإحباط، لأن القرارات تأتي من فوق دون استشارة من ينفذها على الأرض.

عندما عاد إلى قاعة الاجتماعات، كان المديرون بانتظاره متوقعين أن يستعرض عليهم إستراتيجيات معقدة لإنقاذ الشركة. لكنه قال ببساطة: «متى كانت آخر مرة نزلتم فيها إلى المصنع وتحدثتم مع عمالكم؟»، تبادلوا نظرات حائرة، ثم بدأ البعض في التململ. أجاب أحدهم بعد تردد: «نحن نراقب الأوضاع من خلال التقارير والاجتماعات».

ابتسم شوارزكوف ابتسامة خفيفة، وقال: «في ساحة المعركة، القائد الذي يعتمد فقط على التقارير يخسر الحرب قبل أن تبدأ»، ثم أخذهم معه في جولة داخل المصنع، وأجبرهم على التفاعل مع الموظفين، والاستماع إلى مشاكلهم مباشرة. كان الأمر غريبا عليهم في البداية، لكن بمرور الأيام بدأ التغيير يظهر. شعر العمال أخيرا بأن أصواتهم مسموعة، وبدأت المشكلات الفعلية تُحل بدلا من أن تُناقش فقط في اجتماعات عقيمة.

لم يعتمد شوارزكوف على أسلوب الإدارة التقليدي القائم على فرض القرارات من أعلى، بل أعاد تشكيل بيئة العمل عبر ترسيخ مبدأ بسيط «القائد الحقيقي يخدم فريقه، لا يتحكم فيه». لم تمضِ أشهر قليلة حتى تحسنت معنويات الموظفين، وارتفعت الإنتاجية، وعادت الشركة إلى مسارها الصحيح. لم يكن ذلك بسبب إعادة هيكلة ضخمة أو تغييرات معقدة، بل بسبب تغيير جذري في طريقة القيادة.

عاد شوارزكوف إلى مقعده، والتفت إلى الحضور الذين كانوا ينصتون بتركيز شديد، ثم قال بصوت ثابت: «القيادة ليست مجرد أوامر أو إستراتيجيات، بل هي القدرة على فهم الناس وتحفيزهم، وإعطائهم سببًا للقتال من أجله. سواء كنت في ميدان المعركة أو في قاعة الاجتماعات، القاعدة واحدة: كن حيث يكون جنودك».

ساد الصمت لوهلة، قبل أن يندلع التصفيق الحار. لم يكن ذلك مجرد درس في الإدارة، بل كان كشفًا لحقيقة يغفل عنها الكثيرون: النجاح لا يُبنى بالمكاتب الفخمة، بل بالعقول والقلوب التي تقودها.