عادت بي الذاكرة ثلاثة عقود إلى الوراء، حين كنتُ أنا وأخي الأكبر نترقب بلهفة تلك اللحظة التي تعود فيها أمي من مجالس الذكر، ذلك المكان الذي اعتادت التردد عليه، حيث كانت تحرص على حضورها كلما سنحت الفرصة، حتى رحلت إلى جوار ربها.
كانت تلك اللحظة، التي تسبق عودتها، مليئة بترقبنا العميق، فكلما اقترب وقت العودة، بدأنا نستعد بحماس؛ أحدنا يراقب من الشباك، بينما الآخر يستعد للركض إلى الباب، لمجرد أن نسمع صريره وهو يفتح، وعندما نسمع صوت الباب يُفتح أخيرًا، كان قلبنا يطير فرحًا، لأننا كنا نعلم أن أمي قد عادت، وما إن نسمع صرير الباب يُفتح، حتى ندرك أن القلب الحنون قد عاد، فيبدأ الماراثون الأخوي على مضمار غير متكافئ؛ أحدنا يصطدم بالجدار، بينما الآخر يمتطي صهوة الدرابزين، متخذًا منه سلمًا ينحدر به إلى الأسفل، حتى وإن كنا نعلم جيدًا أن السقوط سيكون حتميًا. ولكن لا يهم، طالما أننا في سباق جاد نحو أحضان أمي.
وذات مرة، وفي غمرة الحماس، لم أُعر انتباهًا لطريقي، فتعثرت وانزلقت، متدحرجًا على السلم، أتلقى الكدمات من هنا وهناك، حتى انتهى بي المطاف بالاصطدام بباب المنور. رفعت رأسي لأجد أخي قد سبقني، فتشبثت بأذياله معرقلًا مسيره في شقاوة طفولية، ورغم أننا كنا نبدو كأننا في «سباق هزلي»، لم نتوقف، بل واصلنا السباق حتى وصلنا معًا إلى أحضان أمنا الغالية.
و ما إن تستقر أمي، حتى تمتد يدها إلى حقيبتها السوداء المزخرفة بقطع «الترتر» الذي تحبه، فتخرج لنا بعض الحلوى، فأحظى بالنصيب الأكبر بحكم أني الأصغر سنًا، بينما يكتفي أخي بما تبقى. أما نحن، فكنا نعتبر أن نصيبنا من الحلوى هو مكافأتنا على العناء الذي بذلناه في السباق، ونحن نعلم جيدًا أن أمي لن تقصر في إهدائنا ما تبقى من حبها وعطفها.
لكن الحقيقة أن السباق لم يكن من أجل الحلوى فحسب، بل كان وراءه هدف أسمى... وهو أن نرافق أمي إلى حجرتها، حيث المبتغى الفريد. وما إن تزيل «البيشة» عن شعرها الناعم وتضعها على الشماعة أو فوق السرير، حتى نتقاسم أطرافها، نشتم عبيرها الفريد، تلك الرائحة الزكية التي لطالما أسرتنا، فتمسك بها أناملنا الصغيرة، ويغمرنا شعور لا يوصف من الراحة والرضا، وكأننا نحتضن قلبها الطيب الذي لا يمل من العطاء، فنشعر وكأن كل شيء في هذا العالم قد توقف لحظة، وكأننا نحن فقط من نعيش في هذا الأمان.
ومرت السنوات... أكثر من عشرين عامًا مضت على تلك الأيام الجميلة، تلك الأيام التي كانت مليئة بالحنان والمحبة، حتى عدت يومًا وحدي إلى غرفة أمي، وفجأة تسلل إلى أنفي ذلك الشذى العطر، فتوقفت متعجبًا... هل لا تزال أمي ترتدي البيشة ذاتها؟ وهذا مستحيل! أمعنت النظر، فوجدت أن نسجها وحياكتها قد تغيرا، فأيقنت أن الرائحة لم تكن تنبع من البيشة نفسها، بل كانت عبيرًا من قلب أمي الصافي، وحنانها الفياض، وروحها الطيبة التي أغدقت بها على كل من حولها.
عندها، احتضنت البيشة بكل شوق وحب، غطيت بها وجهي، وأسدلت أطرافها على جسدي، مستشعرًا دفء عبقها، وغرقت في ذكرياتي، أردد دعائي الخالص: «اللهم اجعلها في روحٍ وريحان، وجنة نعيم»، يا الله، كم أفتقدك، وكم أحن إلى حضنك الذي كان يأويني دائمًا، يا من كنتِ لقلبي أمانًا وملاذًا، يا من كانت حياتي مرهونة بحبك، وكانت أيامنا لا تكمل إلا بك.
كانت تلك اللحظة، التي تسبق عودتها، مليئة بترقبنا العميق، فكلما اقترب وقت العودة، بدأنا نستعد بحماس؛ أحدنا يراقب من الشباك، بينما الآخر يستعد للركض إلى الباب، لمجرد أن نسمع صريره وهو يفتح، وعندما نسمع صوت الباب يُفتح أخيرًا، كان قلبنا يطير فرحًا، لأننا كنا نعلم أن أمي قد عادت، وما إن نسمع صرير الباب يُفتح، حتى ندرك أن القلب الحنون قد عاد، فيبدأ الماراثون الأخوي على مضمار غير متكافئ؛ أحدنا يصطدم بالجدار، بينما الآخر يمتطي صهوة الدرابزين، متخذًا منه سلمًا ينحدر به إلى الأسفل، حتى وإن كنا نعلم جيدًا أن السقوط سيكون حتميًا. ولكن لا يهم، طالما أننا في سباق جاد نحو أحضان أمي.
وذات مرة، وفي غمرة الحماس، لم أُعر انتباهًا لطريقي، فتعثرت وانزلقت، متدحرجًا على السلم، أتلقى الكدمات من هنا وهناك، حتى انتهى بي المطاف بالاصطدام بباب المنور. رفعت رأسي لأجد أخي قد سبقني، فتشبثت بأذياله معرقلًا مسيره في شقاوة طفولية، ورغم أننا كنا نبدو كأننا في «سباق هزلي»، لم نتوقف، بل واصلنا السباق حتى وصلنا معًا إلى أحضان أمنا الغالية.
و ما إن تستقر أمي، حتى تمتد يدها إلى حقيبتها السوداء المزخرفة بقطع «الترتر» الذي تحبه، فتخرج لنا بعض الحلوى، فأحظى بالنصيب الأكبر بحكم أني الأصغر سنًا، بينما يكتفي أخي بما تبقى. أما نحن، فكنا نعتبر أن نصيبنا من الحلوى هو مكافأتنا على العناء الذي بذلناه في السباق، ونحن نعلم جيدًا أن أمي لن تقصر في إهدائنا ما تبقى من حبها وعطفها.
لكن الحقيقة أن السباق لم يكن من أجل الحلوى فحسب، بل كان وراءه هدف أسمى... وهو أن نرافق أمي إلى حجرتها، حيث المبتغى الفريد. وما إن تزيل «البيشة» عن شعرها الناعم وتضعها على الشماعة أو فوق السرير، حتى نتقاسم أطرافها، نشتم عبيرها الفريد، تلك الرائحة الزكية التي لطالما أسرتنا، فتمسك بها أناملنا الصغيرة، ويغمرنا شعور لا يوصف من الراحة والرضا، وكأننا نحتضن قلبها الطيب الذي لا يمل من العطاء، فنشعر وكأن كل شيء في هذا العالم قد توقف لحظة، وكأننا نحن فقط من نعيش في هذا الأمان.
ومرت السنوات... أكثر من عشرين عامًا مضت على تلك الأيام الجميلة، تلك الأيام التي كانت مليئة بالحنان والمحبة، حتى عدت يومًا وحدي إلى غرفة أمي، وفجأة تسلل إلى أنفي ذلك الشذى العطر، فتوقفت متعجبًا... هل لا تزال أمي ترتدي البيشة ذاتها؟ وهذا مستحيل! أمعنت النظر، فوجدت أن نسجها وحياكتها قد تغيرا، فأيقنت أن الرائحة لم تكن تنبع من البيشة نفسها، بل كانت عبيرًا من قلب أمي الصافي، وحنانها الفياض، وروحها الطيبة التي أغدقت بها على كل من حولها.
عندها، احتضنت البيشة بكل شوق وحب، غطيت بها وجهي، وأسدلت أطرافها على جسدي، مستشعرًا دفء عبقها، وغرقت في ذكرياتي، أردد دعائي الخالص: «اللهم اجعلها في روحٍ وريحان، وجنة نعيم»، يا الله، كم أفتقدك، وكم أحن إلى حضنك الذي كان يأويني دائمًا، يا من كنتِ لقلبي أمانًا وملاذًا، يا من كانت حياتي مرهونة بحبك، وكانت أيامنا لا تكمل إلا بك.