هادي اليامي

بمزيج من مشاعر الفخر والاعتزاز يسترجع السعوديون ذكرى «يوم التأسيس»، ليحتفوا بذلك الإنجاز الكبير الذي حقّقه أسلافهم الكرام، والجهود التي بذلوها حتى تم إعلان قيام الدولة السعودية الأولى وعاصمتها الدرعية، لتكون واحة وسط الصحراء، وعلامة فارقة ونقطة مضيئة، بعدما كانت الجزيرة العربية تعيش حالة مزرية من الفوضى العارمة وعدم الاستقرار الأمني نتيجة انتشار الحروب بين القبائل لأبسط الأسباب، بالإضافة إلى الفقر الذي كان السمة الأبرز بسبب انعدام الموارد وقلة مصادر الدخل.

بفضل عزيمة الإمام محمد بن سعود ورفاقه، وإصرارهم على التغيير، تجاوزوا الصعاب، وحققوا حلم توحيد البلاد بعد عقود من الفرقة والحروب. ووسط هذه الأوضاع المتأزمة، برز الإمام محمد بن سعود – رحمه الله – بعزيمة وإصرار على بناء كيان سياسي موحد، فأسس الدولة السعودية الأولى عام 1727، وجعل من الدرعية مركزًا للعلم والتجارة والاستقرار.

ولأن الدولة الوليدة جمعت كل أطياف المبدعين وأصحاب الكفاءات والقدرات العالية، فقد شهدت ازدهارا اقتصاديا غير مسبوق، وأصبحت مركزا يستقطب الكثير من التجار والقوافل التجارية، فارتفع مستوى معيشة السكان، وانتشرت الحرف والمحلات التجارية، وتعددت الأسواق وأماكن البيع، وشهد الناس سعة في العيش بعد الضيق الذي كان سمة ملازمة لهم. لذلك لم يكن غريبا أن يتدافع الناس من المناطق المحيطة، للاستقرار فيها لتوافر الأمن في كل ربوعها.

لم يكن تأسيس الدولة أمرا سهلا وميسورا، بل احتاج لكثير من المجاهدات والعناء، فالفوضى الأمنية كانت هي العنوان الأبرز، حيث لم يعهد الناس الانخراط في سلطة موحّدة، بالإضافة لانتشار اللصوص وقطّاع الطرق، ووجود كثير من الأعداء المتربصين، وغير ذلك من التحديات.

لذلك، فإن قيام الدولة السعودية الأولى في ذلك التاريخ القديم كان أساسا راسخا لقيام المملكة العربية السعودية بصورتها الحالية، ومقدمة كافية لظهور دولة تسابق الزمن، لتطوير واقعها وتحسين مستقبلها، بعد أن أكرمها الله بقيادة ملهمة واعية وحكيمة، تعمل بكل جهد لأجل رفعة شعبها، وترقية مستوى معيشته، وضمان مستقبل أفضل لأجياله المقبلة، وهو ما يؤكد أن العزيمة الصادقة يمكن أن تحقّق المعجزات إذا تحلّى صاحبها بالإيمان وصدق التوجّه.

لذلك، فإن عناصر الارتباط بين الدولة السعودية الأولى والدولة التي نعيش في ظلها الآن متماثلة، لأن القيادة في الحالتين تعود إلى أصل واحد، وتتشارك القناعات الصحيحة نفسها، وتسعى لإنجاز الأهداف نفسها، وهو ما قادها للنجاح وكسب قلوب الناس.

فقد اهتم الإمام محمد بن سعود بالنهضة العلمية التي تصدت للخرافات والجهل، ووضع الأساس المتين لدولة عصرية اختار لها كتاب الله وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، دستورا، وهو النهج نفسه الذي سار عليه فيما بعد المغفور له - بإذن الله – الملك عبد العزيز آل سعود عندما أعلن تأسيس المملكة العربية السعودية بحدودها المعروفة حاليا.

وكما كانت الدرعية مركزًا للعلم والتجارة والاستقرار في الماضي، تحتضن المملكة اليوم مشاريع عملاقة، مثل مشروع نيوم، الذي يجسد رؤية طموحة لمستقبل مزدهر.

وتأتي الذكرى الحالية ليوم التأسيس في وقت تعيش فيه بلادنا أزهى عصورها، وتقطع كل يوم خطوات واسعة نحو التطور والنهضة والنماء تحت قيادة مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده وساعده الأيمن سيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله – حيث أصبحت المملكة في طليعة دول العالم من جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ومع أن هذه البلاد عرفت طريق التنمية والرفاهية - بحمد الله - منذ زمن طويل، فإن ما نشهده في هذا العهد المبارك يمثل صفحة جديدة، ولا سيما بعد إقرار رؤية المملكة 2030 التي جاءت لتحقيق العديد من الأهداف الإستراتيجية، مثل تنويع مصادر الدخل، واستنباط قنوات جديدة تسهم في تحقيق التنمية المرجوة، وتقليل الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للدخل، وتحقيق التنمية المستدامة التي تقوم على عدم استنزاف الموارد، وترشيد استخدامها، وضمان حصص منها للأجيال المقبلة.

ولأن الأوطان تبنى بسواعد أبنائها، فإن الاحتفال بهذه الذكرى يمثّل فرصة سانحة ليعلم أبناء هذه البلاد المباركة حجم التضحيات التي بذلها أجدادهم الأبطال، حتى يكونوا أكثر قدرة على استلهام المعاني العظيمة لهذا اليوم، ويدركوا القيمة الغالية لبلادهم، ويضحّوا من أجلها بالغالي والنفيس.

يوم التأسيس ليس مجرد ذكرى، بل هو تجديد للعهد، واستلهام لماضٍ مجيد يقودنا إلى مستقبل أكثر إشراقًا. وكما صنع أجدادنا التاريخ، فإن مسؤوليتنا اليوم أن نحمل الراية، ونواصل المسيرة نحو المجد والريادة.