لفتَ انتباهي من مشاجرةٍ حصلت أمامي أنَّ أحدَ الواقفين يُردِّد: «اللي بعده، بسرعة اطرحه، ما يحتاج تسوي كذا» وغيرها من الكلمات التي لم ألتقطها، ولمّا انتهت المضاربةُ ذهبَ هذا المتفرج ببرودٍ تام إلى الفَوّال المجاور ليتناول عشاءه، وهذا يعني أنه لا يعرف أحدًا من المتخاصمين، وليس في عجلةٍ من أمره، وقد تمنّيتُ -بخبثٍ- أن تَطول المضاربة؛ كي أتأمَّل حركات هذا الرجل وأقواله، فهو غريب في تطّلبه، وهذا ما جعلني أدخل الفَوَّال وأجلس في الطَّاولةِ التي أمامه؛ لعلّي أنال أيَّ تفسير لتصرفاته، وقد وجدتُه كثير الحركة بلا أيّ فائدة مكتملة الأركان، حتى إنّه اختصم مع المحاسب على الفاتورة -المسعّرة ابتداءً- دون أن يُكمل الخصام، بل خرجَ جاعلًا المحاسب يتحسّر -ندمًا- على استقباله، ثم أقبلَ أحد العاملين -بعد أن سَمِع صوتَ الخِصام- إلى المحاسب ليُعطيه مبلغًا أخذه من الرجل قيمةً للشاي بالحليب، وبهذا تكون الفاتورة سُدِّدت بالكامل ولكن سُلِّمَت إلى شخصين، فلماذا لم يقل هذا الرجل للمحاسب «إني قد أعطيتُ قيمةَ الشاي لزميلك»؟ لم أُجِب عن هذا السُؤال مباشرة، لكنّي دوّنتُ المقولةَ التالية في دفتري الأزرق:
«لقد كُتِبَت فاتورةُ العشاء بقلمين». ثم خرجتُ وأنا أفترضُ أنَّ سلوكَ الرجل (دراميٌّ)، يُعبّر عن روح هذا العصر، وهو الذي نقلني إلى فكرةٍ سبق أن دونتُها في إحدى كتاباتي -لا أذكر أين- وهي أنَّ مرحلةَ (ما بعد الدراما) هي عودةٌ مخاتلة للحكايةِ الدرامية، ولكن بلا أسسٍ ثابتة. وكأنَّ اللهَ بعثَ هذا الرجل ليتقمّص هذه المقولة أمامي.
ولبيانِ هذه المقولة سأستعين بنكتةٍ قيلت عن هانس ليمان، أبرز مُنظّري مسرح ما بعد الدراما، تقول النكتةُ «كلما أراد هانس أن يُحدِّد معايير ما بعد الدراما ضاعَ في زحام الاكتشافات الجديدة». وأظنَّ أنَّ النكتةَ ظاهرةُ البيانِ في شَرحِ المخاتلة، وهي التي نظرتُ بها إلى الرجلِ في المطعم، فهو يَصنع حكايةً دراميّة بلا ناظم مركزيّ؛ لهذا لا أحدَ يُميّزها بذاتِها كما هي الحكايات التقليديّة، ومن العلامات المُدهشة التي رأيتُ أنها دليلٌ على حكايتِه المصنوعة هي الكتابة بقلمين، ففي المسرح قديمًا كان يجتمع الكاتبُ والمُخرج والممثلون لأداءِ عَرضٍ كأنَّه من قَلمِ شَخصٍ واحد، إلا أنَّ تَعددَ أقطابِ العَرضِ المَسرحيّ -من الأساس- يفترضُ الكتابةَ بقلمين أو أكثر، وهذا ما أنتجَ -بمنطقِ التاريخ- مسرحَ ما بعد الدراما، وهو الذي يُوزِّع المَهام داخلَ العرض دون أن يجعل شيئًا متسلطًا على آخر، فيكون العرض المسرحيُّ قوالبَ أدائية من صُنعِ كُتَّاب متعددين، فلكلٍ قلمُه الممثل والمخرج والفنيّ، والمتفرج أيضًا، بل للذكاء الاصطناعي أقلامه التي تُربك المشهد النقدي، هذا التَفكّك مزعج للفكر الإنساني الذي يُريد الحكايةَ التقليديةَ المكتملة بسردها المنطقيّ من قلمٍ واحد، لهذا لا يأخذ ما يراه في حياته على محملِ الجد، كما في فعلِ رجل المطعم مثلًا، لأنَّه يَعدّه مجرد أداءٍ وليس حكاية. لكن ما نُلاحظه أنَّ أفعالَنا المعيشيّة مجرد أداء لن يأخذها أحدٌ على محملِ الجد ما لم نكتبها بوعي على شكل سيرةٍ ذاتية أو غيريّة؛ لنُحولها إلى حكايات، وهنا تتدخَّل سلطةُ القلم الواحد بإلغاء الأقلام الأخرى.
إلا أنَّ ثمة تجربة سعت لنقيض هذه السلطة، وهي تجربة قام بها الكاتبُ الأرجنتيني بورخيس وصديقه أدولفو كاساريس، حين اتفقا على أن يكتُبا نصًا إبداعيًا بقلمين، وقد تَردّدا في البدايةِ -لأنَّ النَصَّ الإبداعيَّ يُولَد من ذاتٍ واحدة- لكنّهما جَرَّبا فخرجَ من قلميْهما نصٌ مُوقّع باسم (بوستوس دوميسك)، إلا أنَّ هذا النَص لا يُشبه أحدًا منهما، بل يُشبه أداء رجلِ المطعم المتصنع، لهذا لم يأخذ الجمهور الأرجنتيني هذه الشخصية المستعارة على محملِ الجدّ، فقرَّر الكاتبان أن يَقتُلا بوستوس دوميسك، ويضعان مكانَه شخصيةً أخرى هي (ب. سواريز لنج)، وقد ارتبطت بالعملِ البوليسي، وهو العمل الذي يُكتَب بأقلام متعدّدة، لكنَّ الذي يَحبِك فيه الحكايةَ قلم واحد، لهذا يُحبّ النَّاسُ العملَ البوليسي ويتشوقون إليه، فهو الواقع والخيال في آنٍ واحد؛ ولم تكن صناعة هذه الشخصية البوليسية إلا مخاتلة من الكاتبين؛ لإحياء الشخصية الأولى بوستوس -صاحبة الأقلام المتعددة- حيث أُعيدَت من قبرها في قصّتين الأولى بعنوان (وهمان مشهودان) والثانية (وقائع)، وبين القصتين عشرون سنة، وهما بهذه المخاتلة يُطبّعان فكرةَ الكتابة بأقلام متعددة في ذاكرةِ الجماهير، أي تعويدهم على أن يستخرجوا الحكايةَ من قلبِ الواقعِ المُفَكّك.
التفاتة:
سُئِلَ بورخيس كثيرًا «كيف تنجح الكتابةُ الإبداعيةُ المشتركة»؟ وأظنُّ أنَّه لم يُسأل كثيرًا إلا لوقوعِ استحالةِ الأمر في وعي السائلين. وكانت إجابةُ بورخيس صادمة لـ(أنا) الكاتب؛ إذ طالبَ بالتخلي المشترك عن الأنا والغرور، ونسيان الذات، وأن يستغرق المتكاتبون بالعمل وحده.
لكنَّ السؤال كيف يتخلّص الكاتبُ من ذاته؟ أما بورخيس فقد أجابَ عن هذا السؤال الفلسفي بأسلوبه الطريف، وذلك حين قال للناس: «إنه لا يعرف مَنْ صاحبُ النكتةِ في العملِ الفلاني، أهوَ أم كاساريس؟» وقد تأملتُ معنى النكتة عمليًا، فوجدتُه (التأثير) الذي لا يُعرف كاتبه الحقيقي، فهل نعرف مَن قائل النكتة الفلانية مثلًا، أم نرويها بأقلام الثقافة الكلية؟
إذن النصّ المكتوب بقلمين هو ربيب التأثير الثقافي، إذ حين يقع التأثير تختفي الذات.
«لقد كُتِبَت فاتورةُ العشاء بقلمين». ثم خرجتُ وأنا أفترضُ أنَّ سلوكَ الرجل (دراميٌّ)، يُعبّر عن روح هذا العصر، وهو الذي نقلني إلى فكرةٍ سبق أن دونتُها في إحدى كتاباتي -لا أذكر أين- وهي أنَّ مرحلةَ (ما بعد الدراما) هي عودةٌ مخاتلة للحكايةِ الدرامية، ولكن بلا أسسٍ ثابتة. وكأنَّ اللهَ بعثَ هذا الرجل ليتقمّص هذه المقولة أمامي.
ولبيانِ هذه المقولة سأستعين بنكتةٍ قيلت عن هانس ليمان، أبرز مُنظّري مسرح ما بعد الدراما، تقول النكتةُ «كلما أراد هانس أن يُحدِّد معايير ما بعد الدراما ضاعَ في زحام الاكتشافات الجديدة». وأظنَّ أنَّ النكتةَ ظاهرةُ البيانِ في شَرحِ المخاتلة، وهي التي نظرتُ بها إلى الرجلِ في المطعم، فهو يَصنع حكايةً دراميّة بلا ناظم مركزيّ؛ لهذا لا أحدَ يُميّزها بذاتِها كما هي الحكايات التقليديّة، ومن العلامات المُدهشة التي رأيتُ أنها دليلٌ على حكايتِه المصنوعة هي الكتابة بقلمين، ففي المسرح قديمًا كان يجتمع الكاتبُ والمُخرج والممثلون لأداءِ عَرضٍ كأنَّه من قَلمِ شَخصٍ واحد، إلا أنَّ تَعددَ أقطابِ العَرضِ المَسرحيّ -من الأساس- يفترضُ الكتابةَ بقلمين أو أكثر، وهذا ما أنتجَ -بمنطقِ التاريخ- مسرحَ ما بعد الدراما، وهو الذي يُوزِّع المَهام داخلَ العرض دون أن يجعل شيئًا متسلطًا على آخر، فيكون العرض المسرحيُّ قوالبَ أدائية من صُنعِ كُتَّاب متعددين، فلكلٍ قلمُه الممثل والمخرج والفنيّ، والمتفرج أيضًا، بل للذكاء الاصطناعي أقلامه التي تُربك المشهد النقدي، هذا التَفكّك مزعج للفكر الإنساني الذي يُريد الحكايةَ التقليديةَ المكتملة بسردها المنطقيّ من قلمٍ واحد، لهذا لا يأخذ ما يراه في حياته على محملِ الجد، كما في فعلِ رجل المطعم مثلًا، لأنَّه يَعدّه مجرد أداءٍ وليس حكاية. لكن ما نُلاحظه أنَّ أفعالَنا المعيشيّة مجرد أداء لن يأخذها أحدٌ على محملِ الجد ما لم نكتبها بوعي على شكل سيرةٍ ذاتية أو غيريّة؛ لنُحولها إلى حكايات، وهنا تتدخَّل سلطةُ القلم الواحد بإلغاء الأقلام الأخرى.
إلا أنَّ ثمة تجربة سعت لنقيض هذه السلطة، وهي تجربة قام بها الكاتبُ الأرجنتيني بورخيس وصديقه أدولفو كاساريس، حين اتفقا على أن يكتُبا نصًا إبداعيًا بقلمين، وقد تَردّدا في البدايةِ -لأنَّ النَصَّ الإبداعيَّ يُولَد من ذاتٍ واحدة- لكنّهما جَرَّبا فخرجَ من قلميْهما نصٌ مُوقّع باسم (بوستوس دوميسك)، إلا أنَّ هذا النَص لا يُشبه أحدًا منهما، بل يُشبه أداء رجلِ المطعم المتصنع، لهذا لم يأخذ الجمهور الأرجنتيني هذه الشخصية المستعارة على محملِ الجدّ، فقرَّر الكاتبان أن يَقتُلا بوستوس دوميسك، ويضعان مكانَه شخصيةً أخرى هي (ب. سواريز لنج)، وقد ارتبطت بالعملِ البوليسي، وهو العمل الذي يُكتَب بأقلام متعدّدة، لكنَّ الذي يَحبِك فيه الحكايةَ قلم واحد، لهذا يُحبّ النَّاسُ العملَ البوليسي ويتشوقون إليه، فهو الواقع والخيال في آنٍ واحد؛ ولم تكن صناعة هذه الشخصية البوليسية إلا مخاتلة من الكاتبين؛ لإحياء الشخصية الأولى بوستوس -صاحبة الأقلام المتعددة- حيث أُعيدَت من قبرها في قصّتين الأولى بعنوان (وهمان مشهودان) والثانية (وقائع)، وبين القصتين عشرون سنة، وهما بهذه المخاتلة يُطبّعان فكرةَ الكتابة بأقلام متعددة في ذاكرةِ الجماهير، أي تعويدهم على أن يستخرجوا الحكايةَ من قلبِ الواقعِ المُفَكّك.
التفاتة:
سُئِلَ بورخيس كثيرًا «كيف تنجح الكتابةُ الإبداعيةُ المشتركة»؟ وأظنُّ أنَّه لم يُسأل كثيرًا إلا لوقوعِ استحالةِ الأمر في وعي السائلين. وكانت إجابةُ بورخيس صادمة لـ(أنا) الكاتب؛ إذ طالبَ بالتخلي المشترك عن الأنا والغرور، ونسيان الذات، وأن يستغرق المتكاتبون بالعمل وحده.
لكنَّ السؤال كيف يتخلّص الكاتبُ من ذاته؟ أما بورخيس فقد أجابَ عن هذا السؤال الفلسفي بأسلوبه الطريف، وذلك حين قال للناس: «إنه لا يعرف مَنْ صاحبُ النكتةِ في العملِ الفلاني، أهوَ أم كاساريس؟» وقد تأملتُ معنى النكتة عمليًا، فوجدتُه (التأثير) الذي لا يُعرف كاتبه الحقيقي، فهل نعرف مَن قائل النكتة الفلانية مثلًا، أم نرويها بأقلام الثقافة الكلية؟
إذن النصّ المكتوب بقلمين هو ربيب التأثير الثقافي، إذ حين يقع التأثير تختفي الذات.