عبدالله العلايلي

أغتبط وأنا أجدني في مناسبة قومية تدعوني لحديث قومي، ولا بدع في أن اغتبط ولا بدع في أن تشملني نشوة لذة أيضًا. فإن القومية شعور بالوجود، شعور بمكان الشخصية وبما يجتمع فيها من الخصائص والقوى، وبما هي مهيأة لإبداعه. فإن صفة الخلق والإبداع تتصل اتصالًا وثيقًا بما فينا من ذاتية، بما فينا من شخصية خالقة.

ففي مفهومنا أن الرغبة بالقومية ليس لأنها سبيل إلى الاستقلال وطريق إلى الحرية والحكم الذاتي، فإن في أية دعوة إنسانية سبيلًا إلى ذلك جميعًا. ولكن لأن القومية سبيل إلى الشخصية المتحيزة، سبيل إلى الوجود الإرادي والاعتداد الخالد الذي لا يعروه ضمور ولا اضمحلال، ثم لا يشي عليه عدم أو فناء.

لاحظوا معي في التاريخ وفي التاريخ كله، أن الإبداع العبقري لم يكن أبدًا وليد رغبات مطلقة عامة، بيد أنه كان وليد رغبات قومية دائمًا.

تسود اليوم المدارس التاريخية على اختلافًا، نزعة تعلل التوسعات العالمية كالتوسع اليوناني والروماني والعربي، بيقظة القومية التي من شأنها أن تعبى، كل القوى والإمكانيات كي تطبع شخصيتها. وما اضمحلت الشخصية القومية في أمة، إلا وتبعها اضمحلال مستوى الكفاءة لدى الجماعات والأفراد جميعًا.

ولهذا وحده نحن ننادي بالقومية، ونثير حديثها ولا نفتأ نعمل لها ونكافح بسبيل إشاعة روحًا ناهضة ناشطة...

عبر الناس وهم ينظرون إلى المحيط الخاص، كعامل خارجي مهم في التنوع الاجتماعي، وضافوا إليه ما يمتاز به كل مجتمع من خصائص، هذه الخصائص التي تشملها كلمة «النوعية الاجتماعية».

وقد ذهبوا يمدونه على جميع مظاهر النشاط البشري، ويعنون على أساسه بدرس مدنيات التاريخ وأوضاع الاجتماع للأمم.

ورغم أن هذا الرأي بدرجة بالغة من الوضوح، ترى أن نظرية المحيط وبالتالي النوعية الاجتماعية، قد أضحت فاسدة. ويزيدها فسادًا أن يبنى عليها الصرح الاجتماعي القومي، وإن كنا لا نشك في أنها كانت عاملًا اجتماعيًا مهمًا فيما مر من أدوار التاريخ.

وأما اليوم فقد تراخت حواجز المحيط الخاص، وتداعت تداعيًا يكون من الخطأ الكبير اتخاذه قاعدة للوضع الاجتماعي، لأن الأواصر الاجتماعية في العصر الحاضر اتخذت صورة تختلف اختلافًا تامًا عن العصور السابقة.

فإن اتصال أسباب العمران والثقافة والتربية والاختلاط اللغوي والفكري والتشابك المصلحي، أوجدت وحدات عامة ومكيفات عامة، تخطت الحواجز الوسطية القائمة وتجاهلتها في حركة تموجها السريعة الشاملة. فنشأ من هذا حالة تداخل اجتماعي آخذة بالمد، وغدًا كل مجتمع يحتضنُ مثلًا مما يحتضن المجتمع الآخر، وبرزت حركة التجاوب بين المجتمعات بعد أن كانت واقعة في صموت، فلم يكن لأي صوت في مجتمع صدى أو رجع في مجتمع آخر.

ومن هذا يتبين أنه لم يعد في الاجتماع إلا محيط عام يجمع الأمم، ويظهر بأثره في الشعوب المتمدنة منها بصورة أكثر واقعية.

وأما المحيط الخاص فقد تلاشى تقريبًا، وقد يتلاشى تمامًا لأن في كل أمة مزيجا يتم بالسمات العامة.

1945*

* لُغَوِيٌّ وَأديب لُبْنَانِيٌّ «1914 - 1996».