كيف يُمكن للدين بوصفه نسقًا تفسيريًا ثابتًا يَمنح الفردَ أجوبةً شافية عن مُختلف تساؤلاته وقضاياه ويُنظم حياتَه في تفاصيلها الدقيقة، أن يستحيلَ مادةً للدراسة والملاحظة أو قضيةَ بحثٍ ومُساءلة تَحتمل من النسبية ما يحتمله أي جهدٍ فكري بشري؟ بل كيف يُمكن تحويله وهو الذي يَختزن كل معاني السمو والتعالي والتقديس إلى مجرد موضوعِ تقص وبحثٍ يَستنطق المُجتمع في بُعده الدنيوي؟
اختيار لا يخلو من التعقيد
كتبَ إميل دوركهايم في رسالةٍ وجهَها إلى مجلة (Néo-scolastique de Louvain): «في سنة 1895 فقط تملكني شعورٌ خاص بالدور الرئيس الذي يضطلع به الدين في الحياة الاجتماعية. في هذه السنة فقط وللمرة الأولى وجدتُ الوسيلةَ لافتتاح دراسةٍ سوسيولوجية عن الدين. إنه احتفال بالنسبة إلي، إلى حد أن دراساتي السابقة عينها، ستبقى في حاجةٍ لإعادة فهْمها والتعامُل معها في ضوء أبحاثي الجديدة حتى يتحقق الانسجام المطلوب». المعلوم أن دوركهايم كتبَ مؤلفَهُ الشهير «الأشكال الأولية للحياة الدينية..» قَبل هذا التاريخ بفترةٍ، وتحديدًا في العام 1869، ما يشي بأن إعلانه اكتشاف أهمية دراسة الدين جاءَ لاحقًا؛ غير أنه اكتشاف لم يكُن مفصولًا عن مؤلف «هربرت سبنسر» «Ecclesiastical Institutions»، الصادر في العام 1885، والذي ماثَلَ فيه بين معنى الحق والأخلاق والدين؛ يتعلق الأمر في هذه المستويات الثلاثة بأنساقٍ مُنظمة للحياة الاجتماعية ما دام «الدين لا يَفرض نفسه على السلوك فقط وإنما على الوعي. فهو لا يُملي مجرد أفعال وإنما أفكارًا أيضًا ومشاعر». ومن ثمة فهو ليس مجرد فلسفة غامضة، ولا يموت مع تطور العقل وهيْمَنته، لأنه يوجد في جسم الحياة الاجتماعية ذاتها؛ فما دام هناك أناس سيوجد حتمًا إيمانٌ مُشترَك بينهم يُمثل جوهر هذا الدين أو ذاك، وهو ليس مجرد شعور أو تطلع غامض نحو اللا متناهي، إنما هو قوة جماعية للخضوع والإذعان، وفي الوقت نفسه قوة للخلق والفعل في زمنٍ محدد، بموجبها يستحيل الإله مجرد رمزٍ عرضي أو نسبي للمؤسسة الدينية. من هنا نَظَرَ دوركهايم للدين بوصفه اعتقادًا وقاعدة، وهو عقيدة للكنيسة بوصفها إطارًا لجماعة حية. لكن هل من السهولة دراسته علميا؟ وإلى أي حد كان هذا الأمر سهلًا على دوركهايم نفسه؟
الواضح أن ثمة صعوبات عديدة تَعترض دراسة الدين بما هو إيمان. أولها إذا استحضرنا تاريخ الأديان لكونه تاريخًا غارقًا في التعميمات، وثانيها، متى استحضرْنا دَور الإثنوغرافيا لأنها مُغرقة في البحث عن الغرائبي؛ بل إن هذه الصعوبة قائمة حتى باستحضار منهج دوركهايم الخاص، واختياره التعامل مع الظواهر الاجتماعية بوصفها «أشياء» وتصنيفها من جديد بناءً على أنماط (Types).
إن هذا الاختيار ذاته لا يخلو من التعقيد، بدءًا من مُنطلقاته الأولى، ونعني مفهوم الشيء (Chose). ومن دون الدخول في تفاصيل دقيقة، فالشيء ليس معطى فوريًا ومباشرًا، ولا هو ظاهرة مثلما تصورها الوضعيون، ثم إنه ليس واقعًا مثلما فهمه التجريبيون. ولئن كان لدى دوركهايم هو «كل ما هو معطى وكل ما يَفرض نفسه على الملاحظة»، فما يَفرض نفسه فعلًا، مثلما انتبه إلى ذلك «رونوفيي»، هو مجموعة من «الظواهر» و«التمثلات» التي لا توجد هكذا بمحضِ ذاتها.
ولأن الانتقالَ من تمثلاتٍ جزئية إلى أخرى كلية أو شمولية هو انتقالٌ متناقض، فإن الباحث السوسيولوجي، كأي عالِمٍ من العُلماء، مَدعو إلى رفْض البداهات القائمة. وفي مستوى آخر، نَجِدُ الأفعالَ الدينية تَبرز على نحو تمثلاتٍ مُختلفة ومُمتدة زمنيًا لأن هناك تاريخًا للأديان، ولهذا تبقى غير ثابتة، ولا توجد مثلما يتم تصورها. كما لا يُمكن الاحتفاظ بها أو دراستها. ولأن الإيمان «ظاهرة-أزمة» بالنسبة إلى المجتمع تعلو جوانبه العجيبة، يختلف تموقُع الدين عن سواه من الظواهر والأفعال الاجتماعية؛ فبالقدر الذي يسهل به دراسة الاشتراكية مثلًا، لكونها تُعبر عن حركة اجتماعية حديثة، يَعسر تناوُل المسيحية بالدراسة، لأنها توجد داخل المجتمع بنظامٍ تراتبي صلبٍ وعنيد.
صعوبة في التصنيف
يَطرح الدين أيضًا صعوبةً في التصنيف للوصول إلى تحديدٍ دقيق، وتُضاعِف من هذه الصعوبة مسألةُ الاستمرارية في التاريخ، لأن الأنماط السابقة من الدين توجد في النمط الحالي كتركيبٍ وتجاوُز؛ ففي دراسة المسيحية مثلًا، يُواجِه السوسيولوجي مشكلةَ الامتداد التاريخي. كما أن الفرد لا يحمل من حيث هو فرد، دينًا معينًا بذاته، بقدر ما يحمل الحاجة إلى إيمانٍ يُمثل جوهرَ الدين نفسه. من هنا، ليست هناك نظرية سوسيولوجية تامة ومُكتملة بصدد الدين؛ فالمسيحية مرةً أخرى لا تمت إلى المجتمع الحديث والمُعاصر بصلة، لأنها لم تبلْوِر حركةً دينية على غرار الاشتراكية مثلًا. وبمعنى أوضح، لا تمثل صنفًا من الظواهر الاجتماعية لهذا المُجتمع. لهذا يعسر أن نَجعل منها «شيئًا»، لأننا نَجد أنفسَنا أمامَ غبارٍ من الوقائع المسيحية، أي أمام جمود غامض؛ وأمام علية لا تحوز أي خصوصية أو تميز.
ختامًا، نؤكد مع دوركهايم صعوبة النفاذ إلى الدين، ودراسته، لأنه حاجة إيمانية؛ فكل جسدٍ اجتماعي يَخضع لإيمانٍ ما، لا نستطيع التعبير عنه. ويبقى الإشكال في استمرار التعارُض القائم بين العِلم والدين؛ ولأن الأول يركز على دراسة الوقائع الاجتماعية على غرار دراسة الأشياء، فهذا يجعله تدنيسًا للثاني، وإن كان في ذلك يُعيد تقطيع تلك القسمة القائمة بين ما هو مقدس وما هو مدنس، لأنه لا ينبغي ألا ننسى أن العِلم أتى بعد الدين من دون أن يكون قادرًا على إلغائه أو محوه أو القطْع معه كليًا. كما ينبغي ألا ننسى أن مجموعةً من المقولات العلمية كالزمان والمكان والصنف، منطلقاتها الأولى ميتافيزيقية محضة. بل إن دوركهايم نفسه انطلقَ بدءًا من حقل الفلسفة إلى ساحة السوسيولوجيا. أما عن اهتمامه الواضح بالتاريخ فينكشف من خلال مفاهيم «الأشكال الأولية» و«السيرورة» و«الاستمرارية الداخلية»؛ وهو اهتمام لم يقتصر على مجال دراسته للدين فقط، بل نَجده قويًا أيضًا في مؤلفه حول «النظام البيداغوجي الفرنسي» ودراسته للمدرسة، مؤكدًا ضرورة فهْم هذه المؤسسة من داخل لا من خارج، وقد كان يقصد دراستها تاريخيًا. وهنا يبدو التاريخ مهمًا للسوسيولوجيا، لأن مجموع المتغيرات الخاصة بنمطٍ اجتماعي يُمكن كشْفها في ضوء التاريخ.
التوطين معرفيا
يبدو جليًا أن تحويل الدين إلى موضوعٍ للدراسة لم يكُن أمرًا يسيرًا، حتى بالنسبة إلى مجتمعاتٍ غربية استفادت من التراكُم العلمي والابستيمولوجي، وحصنت مؤسساتِها الأكاديمية والبحثية من الداخل. كما هيأت الأفرادَ والمجتمعَ معًا لهذا التحول العلمي الكبير.
أما عن مجتمعاتنا العربية، فالصعوبات والعوائق مضاعَفة وقوية ثقلَ التاريخِ وصلابةَ الجغرافيا. يتعلق الأمر ببنياتٍ اجتماعية وثقافية عنيدة، منها واقع الاصطدام بـ«اللاهوت» مُمثلًا في السلطات الدينية، وحراس التدين، وصعوبة الفصل بين السلطتَيْن السياسية والدينية في نماذج مختلفة من الدول والأنظمة، وتغلْغل بعض الإيديولوجيات الدينية في النسيج الاجتماعي وهيْمَنتها على الأفكار والأفراد معًا. يضاف إلى ذلك مقاومة الموروث الثقافي والدين الشعبي الذي يَطرح نفسه أنموذجًا يَنتصر له الأفراد ويتبنونه كخيارٍ واعٍ أحيانًا ولا واعٍ أحيانًا أخرى.
من هنا نتساءل: كيف يُمكن التوطين معرفيًا وثقافيًا ومؤسسيًا لـ«علم اجتماعي» للدين؟
*جامعة شعيب الدكالي - الجديدة/المغرب
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.