وهى الاكتشاف المدوي يشهره المراهق صوتًا وسلوكًا في وجه والديه، وهى التخطيطات الشعثاء بالأظافر الدامية على جدران الزنازين، وحرية اقتصاديات السوق، حرية المظاهرة وحرية الهراوة، حرية صندوق الاقتراع وحرية المرشّح في صرف الوعود والنقود، حرية طه حسين وحرية الأزهر، حرية الولايات المتحدة في تصدير قمحها لنا وحريتنا في ابتكار أفضل السبل لتطوير زراعة الفراولة والكيوي، حرية الصمت في التحقيق وحرية التعذيب لانتزاع الاعتراف، حرية الكاتب وحرية الرقيب الداخلي الذى لا يرحم والرقيب الخارجي الذى لا يفهم، حريه الثورة وحرية ابنتها البارة/ المقصلة/، حرية الحداثة وحرية التراث، حرية التراث وحرية الأجزاء التي تفضلها السلطة من التراث، حرية المرأة وحرية القبيلة، حرية (بلفور) وحرية جدتي أم عطا، حرية الإمبراطورية وحرية المستعمرات، حرية الجسد المسجون في آلة الجسد وحرية الأصابع الممسكة بقضبان الروح والهواء العالي، حرية (شارون) وحرية شاتيلا، حرية النص وحرية النصح الرسمي للكاتب بضرورة مراعاة المصلحة العليا، حرية الجماعات الإثنية داخل الوطن وحرية الوطن كله، حرية النبذ وحرية الأخذ، حرية النبلة المطاطية وحرية تكسير العظام، حرية اليهودي البولندي في (العودة) للقدس وحريتي في (العودة) إلى بطرس غالى، حرية التطريز على ثوب الفلاحة وحرية حرس الحدود الإسرائيلي في تطريزه بالرصاص وخيوط الدم النازف في غزة، حرية الإبداع وحرية إميل حبيبي في قبول جائزة الإبداع من إسحق شامير، حرية الأنا وحرية الآخر، حرية البحث وحرية المباحث، حرية الشعور بالحرية، حرية اللعب، حرية القصيدة وحرية الشاعر المواطن، حرية ناجي العلي وحرية كاتم الصوت، حرية تدفق المعلومات وحرية حجبها، حرية المسافر العربي وحرية الجالس كضبع وسيم.
والإجابة الوحيدة على هذا التساؤل هي أن القول (المجرَّد) مشاع للجميع، للمخلص وللمدعى، للشريف وللوغد، للموهوب ولعديم الموهبة، للمؤتمن وللدّجال، للذي يعنى ما يقول وللذي لا يعنى ما يقول. ولكى تعنى ما تقول، عليك أن تبتعد عن التجريد وأن تكون (محددًا) و(دقيقًا)، وهذا لا يتأتى لك إلا
إذا كان لقولك مرجعية حياتية ملموسة تتجسد في الواقع المعاش لا في فصاحةِ اللغة.
فمشكلة القول المجرد أنه يعفي صاحبه من أية مسؤولية ولا يلزمه بأية واجبات مسلكية تترتب على قوله. إن الحديث المجرد لا يفقد مصداقيته فحسب، بل يفقد ضرورته أصلا، ولهذا أكنَّ اشمئزازًا (لا يرقى إلى مستوى السخرية) من الفصاحة اللغوية المجردة لرجال ما كلما تحدثوا عن (المعاني الكبرى).
كالحرية والوطن والرخاء والانتماء والوحدة والعالم الحر والاشتراكية والشهادة والبطولة والصمود والتصدي والمبادئ.. إلخ.
ولا فرق عندي بين دجل هؤلاء المحترفين وبين (شعراء القضايا العادلة) الذين لا يقلون عن أولئك الموظفين الرسميين ولعًا بالتجريد اللغوي، فالطرفان لا يقدمان أكثر من (أنشودات احتفالية) وتبشيرية قائمة على الخطابة العالية الصوت، الفقيرة الصدى. والطرفان منغمسان في سراب اللغة لا في تراب الحياة.
إن عبارة «المعاني ملقاة على قارعة الطريق» لا تندد بالتجريد في الكتابة الأدبية وحدها، بل تندد أيضًا بفصاحة الطغاة ودجَالى السياسة. وإلا لكان كافيًا أن يتحول النص الرديء إلى (إبداع) وزعم الـ إلى (واقع) لمجرد أنهما يرددان كليشهات جاهزة حول المعاني الكبرى والقضايا العادلة، وبغض النظر عن الدقة الفنية عند الأول والصدق عند الثاني. وفيما يتعلق بالنص الأدبي، سأسوق مثالًا مختلفًا لكنه يقود إلى الاستنتاج نفسه وهو عقم التناول المثالي. والدعائي والتعميمي، أي عقم القول المجرد:
هناك عدد من شعراء القضية الفلسطينية (فلسطينيين وغيرهم) لم يذكروا أم الشهيد إلا وذكروا زغرودتها عند استشهاد ابنها. وهناك أمهات يزغردن بالفعل فيما يبدو وفيما نعرف. لكنني لم أستطع في أى من قصائدي انتقاء هذه اللحظة بشكل تعميمي مجرد لأنني أؤمن أن ذلك لا ينقل (بدقة فنية) تلك اللحظة السيكولوجية المعينة في أعماق الأم وأن انتقاء بعض الشعراء هذه الزغرودة - عارية من مرجعيتها النفسية والواقعية والاجتماعية والفنية - يقع في باب التعبئة والدعاية والإعلام. إنها إيديولوجية بلا ثياب، تعميمية وعارية تماما وواقفة خارج «الحياة»، مادة الفنان الأصلية ومرجعيته الوحيدة المشروعة.
إن حريتى أثناء تحويل جانب من الحياة إلى نص شعرى، تقتضى منى (الإصغاء) العميق لدقة اللحظة المعاشة (في داخلي)، بوصفي شاعرًا ودقة اللحظة المعاشة (في الحياة) كما تقدمها الحياة ذاتها، أي دون تسطيه يخلّ بها وينفي الحق في (انتقائها) شعريًا. فالشعر يتنافي مع التسطيح والتبسيط الساذج والنمذجة.
1992*
* شاعر وكاتب فلسطيني «1944 - 2021».