العنوان مأخوذ من «أفيه» تعليقة كوميدية لراشد الشمراني في حلقةِ الضمان في طاش ما طاش، وهي تعليقة عجيبة بالعموم.. فكيف وراشد كان يُمثّل دور «التاريخ» في الحلقة؟، أحببتُ جملةَ الشمراني فهي تبتكر معنى كوميديًا مدهشًا، ومع كون الجملة غايتها الإضحاك، إلا أني حين سمعتُها -آنذاك- تذكّرت كريستوفر كولومبس وواقعة اكتشاف أمريكا، وهذه العلاقة تُصبح مقصودةً ما دامت موجودة في ذهنِ متلقٍ ما.
وكثيرًا ما تُذكّرنا رؤيةُ أمرٍ ما أشياءَ معينة دون أن نَعرف سِرَّ هذه العلاقة، وقد يظهر السبب لاحقًا حين نُريد إخراجه. فكولمبس واكتشافه عُدَّ -عند جماعة التاريخ المسيحي- ثاني أعظم حدثٍ منذ خُلِقَ العالم، بعد تجسّد المسيح، وهذا يجعله يُمثّل دور التاريخ الذي أراد شيئًا وأراد الواقع شيئًا آخر، وكولومبس كان «عريسًا» غايته القدس، لكنَّه ضيّع قاعةَ الأفراح، أو لأجعلها بهذا التعبير أراد الزواجَ من القدسِ، وذهبَ ليجمع المهر باكتشافِ أمريكا،.هذا التعبير السَّاخر هو المعادل لقولِ كولومبس وهو يُخاطِب ملك إسبانيا:
«أحثُّ جلالتكم على تمويل غزو بيتِ المقدس من أرباح مشروعي»، قد يهمز البعضُ ويلمز بأنَّ في رحلته شوائب أخلاقيّة، ولكنَّه -مثل هؤلاء الذين ينتقدونه- عريس لديه أهداف دنيوية وأخروية، ويُريد الزواجَ على الطريقة الصحيحة، وألّا يقع في الحيرة الكوميدية.. هل العروس أهم أم تجهيز المهر والقدرة على النفقة؟ لكنَّ السؤالَ الذي يُلاحقه ويُلاحق منتقديه.. ماذا يعني أن تحتلّ مكانًا وغايتُك أماكن أخرى، على طريقة العريسِ الذي ضيّع الصَّالة، العريسِ الذي أشرفَ على كُلِّ صغيرة وكبيرة في زواجه، وأهمها حجز الصالة، ولما حان الوقت نسي دربَها؟.
العرس له دلالات تتقاطع مع الغزو، والتاريخ هو الصراع الذي يُحرك الواقع، والعروس عند كولومبس هو القبر المقدس الذي وُضِع فيه جسد المسيح، لهذا فإنَّ البحث عن الخلاص هو معنى أن تحتلّ مكانًا من أجل مكانٍ آخر، أليس كولومبس اكتشف القارة الأمريكية مع وجود سكان فيها؟ فكيف يكون اكتشافًا وهي مكتشفة من قِبل سكانها الأصليين؟ إنه اكتشاف العروس التي سُميت العالم الجديد، وهي القدس الجديدة، والحلم الأكبر، لكنَّها ظَلّت علامة على العريس الذي ضيَّع الصالة، وهذا ما يُميّز حروبَ النخبة عن حروب العامة، أي بعقلنة النتائج، واستثمارها إلى خلاص آخر، ومن كوميديا هذا الاستثمار أن صارت القدس القديمة وما حولها في المنطقة تمويلًا اقتصاديًا لبناء القدس الجديدة.
يقول ريجان الرئيس «الأربعون» لأمريكا: «إذا بدأنا من قيام إسرائيل سنجد أنَّ كلَّ شيء يسير بالاتجاه الصحيح، تمهيدًا لعودة المسيح»، وقد قال هيجل بأنَّ التاريخَ يُعيد نفسَه مرتين، ثم عَقَّبَ على ذلك ماركس -بلاغةً- بأنَّ الأولى كمأساة والثانية كملهاة، ومن علامات هذه الملهاة تعليقُ مادلين أولبرايت -عندما كانت وزيرة الخارجية الأمريكية- على سؤال لماذا قُتِلَ نصف مليون طفل عراقي، قالت: «هذا خيار صعب، لكنَّ الثمن يستحق»، والثمن هو العالم الجديد، أو القدس الجديدة، وهذا ما صرح به جورج بوش الأب تعليقًا على حرب الخليج الثانية: «إنه نظام عالمي جديد»، وبأسلوبِ الشمراني: «معرس مضيّع الصالة».
ويُمكن للعريسِ الذي أضاعَ الصالةَ أن يكون أحداثًا تاريخية كثيرة ماضية وحاضرة، علامتُها البحث عن الخلاص بالسير على طُرقٍ خاطئة، وربما علامة تاريخ الإنسان كله هي ضياع البوصلة للوصولِ إلى مناطق جديدة بثرواتها على جميع المستويات، وعلى هذا كلَّما أراد الإنسان أن يعرف الغاية، يُفاجئه الطَريقُ بأمورٍ مدهشة تجعله يُؤجِل الغايةَ إلى أجلٍ غير مسمى.
ومن هنا كانَ تاريخ العالم الجديد، هو تاريخ الخطأ الدائم، والعالم الجديد الآن هو عوالم جديدة يَخرج بعضها من بطنِ بعض، فليس التاريخ خطًّا يسير من بدائيةٍ محتقرة إلى حضارةٍ مفتعلة، بل هو الشيء الذي يُفاجئ البشر في كلِ عهد فيُشكّلون به تكتلاتهم لمواجهته، وليس أدلَّ على هذا من تاريخِ العالم الجديد نفسِه؛ فمثلا جاء في إعلانِ استقلال أمريكا أنَّ المساواةَ بين البشر واضحة بذاتها، ومع ذلك ظَلَّ تاريخها يُثبت أنَّها غير واضحة، وهذا الخطأ في الإعلان هو جزء من تاريخها اللاحق؛ لهذا التفتَا ديفيد جريبر وديفيد وينْجرو في كتابهما تاريخ جديد للبشريّة إلى أنَّ فكرةَ المساواة أشغلت الفلاسفةَ وعلماءَ الاجتماع والسياسة، لدرجة أنَّ فروعًا أكاديمية جعلت المساواة موضوعها الرئيس.
وما ذاك إلا لأنَّهم لا يعرفون إلامَ يُشير المصطلح فعليًّا؟ هل هو تكافؤ الفرص، أم التساوي في ظروفِ العيش، أم أن يتساووا شكليًّا أمامَ القانون وحسب؟ بل إنَّ أولئك الذين كتبوا الدستورَ الأمريكي ووصفوا المساواةَ بأنَّها واضحة بنفسها، قد جاءوا من خارجِ أمريكا؛ ليصفوا أهلَ المكانِ الأساس بالمجتمعات «المساواتيّة»؛ وكأنَّ ثمةَ اعتراف بأنَّ الأوربيين الذي دشَّنوا العالمَ الجديد قد تجاوزوا فكرةَ المساواة ذهنيًا دون أن يعرفوا ما المساواة فعليًا، فماذا يعني أن يكون سكانُ أمريكا القدماء «مساواتيّين»؟ هل يعني أنَّ الأوروبيَّ الجديد سيُعاملهم بالتساوي؟؛ أي أنَّهم متطابقون لأنَّهم بشر-في أول خلقتهم-مجرّدون من كل صفاتِ الحضارة، وخاضعون لسلطةِ الأوربيين الجدد غير المتطابقين.
وهذا يعني أنَّ المساواة مشكلة تاريخية وليست واضحة، أو أنَّ هؤلاء السكان لم يعرفوا الحضارةَ والعلم؛ لهذا هم متساوون في الجهل بما يُميّز بعضهم عن بعض، فاحتاجوا إلى أناس غير متساوين يُعلّمونهم أسبابَ التحضّر؟، وهذا المعنى ناتج من فَهمٍ مستبدّ للتاريخ، والسؤال الأخير الذي يُعيد آخر المقال إلى أوله: ماذا لو قُلنا إنَّ سببَ تَضييع العريسِ لصالةِ زواجه هو أنَّ «المعاريس» متساوون في غايتهم التاريخية؟.
التفاتة:
تُمثّل قصيدة مظفر النواب «القدس عروس عروبتكم»؛ حالةً انتقامية مضادّة، فمظفر معرس مضيّع الصالة أيضًا، يقول: «سنصبح نحن يهود التاريخ/ ونعوي في الصحراء بلا مأوى».
وكثيرًا ما تُذكّرنا رؤيةُ أمرٍ ما أشياءَ معينة دون أن نَعرف سِرَّ هذه العلاقة، وقد يظهر السبب لاحقًا حين نُريد إخراجه. فكولمبس واكتشافه عُدَّ -عند جماعة التاريخ المسيحي- ثاني أعظم حدثٍ منذ خُلِقَ العالم، بعد تجسّد المسيح، وهذا يجعله يُمثّل دور التاريخ الذي أراد شيئًا وأراد الواقع شيئًا آخر، وكولومبس كان «عريسًا» غايته القدس، لكنَّه ضيّع قاعةَ الأفراح، أو لأجعلها بهذا التعبير أراد الزواجَ من القدسِ، وذهبَ ليجمع المهر باكتشافِ أمريكا،.هذا التعبير السَّاخر هو المعادل لقولِ كولومبس وهو يُخاطِب ملك إسبانيا:
«أحثُّ جلالتكم على تمويل غزو بيتِ المقدس من أرباح مشروعي»، قد يهمز البعضُ ويلمز بأنَّ في رحلته شوائب أخلاقيّة، ولكنَّه -مثل هؤلاء الذين ينتقدونه- عريس لديه أهداف دنيوية وأخروية، ويُريد الزواجَ على الطريقة الصحيحة، وألّا يقع في الحيرة الكوميدية.. هل العروس أهم أم تجهيز المهر والقدرة على النفقة؟ لكنَّ السؤالَ الذي يُلاحقه ويُلاحق منتقديه.. ماذا يعني أن تحتلّ مكانًا وغايتُك أماكن أخرى، على طريقة العريسِ الذي ضيّع الصَّالة، العريسِ الذي أشرفَ على كُلِّ صغيرة وكبيرة في زواجه، وأهمها حجز الصالة، ولما حان الوقت نسي دربَها؟.
العرس له دلالات تتقاطع مع الغزو، والتاريخ هو الصراع الذي يُحرك الواقع، والعروس عند كولومبس هو القبر المقدس الذي وُضِع فيه جسد المسيح، لهذا فإنَّ البحث عن الخلاص هو معنى أن تحتلّ مكانًا من أجل مكانٍ آخر، أليس كولومبس اكتشف القارة الأمريكية مع وجود سكان فيها؟ فكيف يكون اكتشافًا وهي مكتشفة من قِبل سكانها الأصليين؟ إنه اكتشاف العروس التي سُميت العالم الجديد، وهي القدس الجديدة، والحلم الأكبر، لكنَّها ظَلّت علامة على العريس الذي ضيَّع الصالة، وهذا ما يُميّز حروبَ النخبة عن حروب العامة، أي بعقلنة النتائج، واستثمارها إلى خلاص آخر، ومن كوميديا هذا الاستثمار أن صارت القدس القديمة وما حولها في المنطقة تمويلًا اقتصاديًا لبناء القدس الجديدة.
يقول ريجان الرئيس «الأربعون» لأمريكا: «إذا بدأنا من قيام إسرائيل سنجد أنَّ كلَّ شيء يسير بالاتجاه الصحيح، تمهيدًا لعودة المسيح»، وقد قال هيجل بأنَّ التاريخَ يُعيد نفسَه مرتين، ثم عَقَّبَ على ذلك ماركس -بلاغةً- بأنَّ الأولى كمأساة والثانية كملهاة، ومن علامات هذه الملهاة تعليقُ مادلين أولبرايت -عندما كانت وزيرة الخارجية الأمريكية- على سؤال لماذا قُتِلَ نصف مليون طفل عراقي، قالت: «هذا خيار صعب، لكنَّ الثمن يستحق»، والثمن هو العالم الجديد، أو القدس الجديدة، وهذا ما صرح به جورج بوش الأب تعليقًا على حرب الخليج الثانية: «إنه نظام عالمي جديد»، وبأسلوبِ الشمراني: «معرس مضيّع الصالة».
ويُمكن للعريسِ الذي أضاعَ الصالةَ أن يكون أحداثًا تاريخية كثيرة ماضية وحاضرة، علامتُها البحث عن الخلاص بالسير على طُرقٍ خاطئة، وربما علامة تاريخ الإنسان كله هي ضياع البوصلة للوصولِ إلى مناطق جديدة بثرواتها على جميع المستويات، وعلى هذا كلَّما أراد الإنسان أن يعرف الغاية، يُفاجئه الطَريقُ بأمورٍ مدهشة تجعله يُؤجِل الغايةَ إلى أجلٍ غير مسمى.
ومن هنا كانَ تاريخ العالم الجديد، هو تاريخ الخطأ الدائم، والعالم الجديد الآن هو عوالم جديدة يَخرج بعضها من بطنِ بعض، فليس التاريخ خطًّا يسير من بدائيةٍ محتقرة إلى حضارةٍ مفتعلة، بل هو الشيء الذي يُفاجئ البشر في كلِ عهد فيُشكّلون به تكتلاتهم لمواجهته، وليس أدلَّ على هذا من تاريخِ العالم الجديد نفسِه؛ فمثلا جاء في إعلانِ استقلال أمريكا أنَّ المساواةَ بين البشر واضحة بذاتها، ومع ذلك ظَلَّ تاريخها يُثبت أنَّها غير واضحة، وهذا الخطأ في الإعلان هو جزء من تاريخها اللاحق؛ لهذا التفتَا ديفيد جريبر وديفيد وينْجرو في كتابهما تاريخ جديد للبشريّة إلى أنَّ فكرةَ المساواة أشغلت الفلاسفةَ وعلماءَ الاجتماع والسياسة، لدرجة أنَّ فروعًا أكاديمية جعلت المساواة موضوعها الرئيس.
وما ذاك إلا لأنَّهم لا يعرفون إلامَ يُشير المصطلح فعليًّا؟ هل هو تكافؤ الفرص، أم التساوي في ظروفِ العيش، أم أن يتساووا شكليًّا أمامَ القانون وحسب؟ بل إنَّ أولئك الذين كتبوا الدستورَ الأمريكي ووصفوا المساواةَ بأنَّها واضحة بنفسها، قد جاءوا من خارجِ أمريكا؛ ليصفوا أهلَ المكانِ الأساس بالمجتمعات «المساواتيّة»؛ وكأنَّ ثمةَ اعتراف بأنَّ الأوربيين الذي دشَّنوا العالمَ الجديد قد تجاوزوا فكرةَ المساواة ذهنيًا دون أن يعرفوا ما المساواة فعليًا، فماذا يعني أن يكون سكانُ أمريكا القدماء «مساواتيّين»؟ هل يعني أنَّ الأوروبيَّ الجديد سيُعاملهم بالتساوي؟؛ أي أنَّهم متطابقون لأنَّهم بشر-في أول خلقتهم-مجرّدون من كل صفاتِ الحضارة، وخاضعون لسلطةِ الأوربيين الجدد غير المتطابقين.
وهذا يعني أنَّ المساواة مشكلة تاريخية وليست واضحة، أو أنَّ هؤلاء السكان لم يعرفوا الحضارةَ والعلم؛ لهذا هم متساوون في الجهل بما يُميّز بعضهم عن بعض، فاحتاجوا إلى أناس غير متساوين يُعلّمونهم أسبابَ التحضّر؟، وهذا المعنى ناتج من فَهمٍ مستبدّ للتاريخ، والسؤال الأخير الذي يُعيد آخر المقال إلى أوله: ماذا لو قُلنا إنَّ سببَ تَضييع العريسِ لصالةِ زواجه هو أنَّ «المعاريس» متساوون في غايتهم التاريخية؟.
التفاتة:
تُمثّل قصيدة مظفر النواب «القدس عروس عروبتكم»؛ حالةً انتقامية مضادّة، فمظفر معرس مضيّع الصالة أيضًا، يقول: «سنصبح نحن يهود التاريخ/ ونعوي في الصحراء بلا مأوى».