حسين مروة



«خلق الشاعر و البؤس معا

فهما خلاّن لم يفترقا»

يصف هذا البيت رأياً شائعاً، يكاد يكون رأي الكثرة في الناس، بل يكاد يكون رأي أهل الأدب أنفسهم، وصاحب هذا البيت من أهل الأدب.. من كبار شعراء العرب هذا العصر.. وهل تعرف «بدوي الجبل» إنه هو.. إنه «بدوي الجبل» يقول هذا القول.. إنه الشاعر الذي لا تعرف أنه كان يوماً حليف بؤس، أو كان البؤس حليفه قط.. وما يعرف أحد أن «بدوي الجبل» كان يوماً شاعر البؤس، أو شاعر الألم، وإنما الذي يعرفه شباب هذا الجيل، أو الذين أوفوا على الكهولة في هذا الجيل، أن «بدوي الجبل»، من شعراء الرجولة... فكم بعث الرجولة في دماء الجيل كله عزماً ونارا، وكم بعث الرجولة في دنيا العرب كلها رغاباً وطماحا. ولكنها «الفكرة السائدة» أوحت إلى شاعرنا ما كانت توحيه منذ زمن، ولا تزال توحيه إلى اليوم من أن الأديب لا يكون أديباً حقاً ولا ينتج أدبا حقاً، إلا أن يكون حليف بؤس أو ألم، وإلا أن يعتصره الشقاء اعتصاراً، حتى يريق نفسه على مذبح الأدب دموعا ودماء، أو حسرات وزفرات.

هذه «الفكرة» الشائعة، تحتاج منذ الآن، وفي هذا الزمن العقلي، إلى أن تنظر إليها نظرة جديدة، منطلقة من أسر التقليد الموروث المألوف.. إنها تحتاج إلى ضوء جديد ينبثق من تفكيرنا الواقعي الجديد.. من تفكير الحياة نفسها في هذا الركب السائر في وضح النهار، على هدى العقل وعلى وهج الوعي. في ضوء هذا التفكير نسأل القائلين بضرورة الألم للأدب:

لم يحتج الأديب إلى هذا الألم لكي ينشئ ويبدع، لِمَ كانت تجارب البؤس والشقاء ضرورة للكاتب أوالشاعر من أجل أن يخصب ويثمر، ويفيض خصبا وإثمارا، أو لأن إحساس الشاعر أو الكاتب لا يهتز إلا للألم، ولا يستجيب إلا لمطرقة البؤس والحزن.. أم لأن دوافع الألم أقوى من دوافع اللذة، ومطرقة البؤس أشد فعلا في نفس الأديب من رعشات الهناءة والفرح، أو قشعريرة الغبطة والأمل؟.

أَلِأَنَّ أدب الدمع أغزر ينبوعاً من أدب الابتسام، وصور اليأس أنضر جمالا وأذكي عطراً من صور الرجاء... أم لأن الحياة بمكان من القبح، ومنزلة من الشر، بحيث لا يليق بها إلا أدب الآلام والأسقام... أم لأن الناس أحوج إلى الأديب الكئيب الباكي منهم إلى الأديب الضاحك، المنطلق، المتفائل... لسنا ندري: أي واحد من هذه الأمور يتخذونه سبباً، لهذا القدر المحتوم الذي يفرضونه على الأديب.. لسنا ندري: أيُّ هذه الأسباب يدعو كثرة الناس ألا يروا الأديب إلا جائعاً، أو مريضاً، أو نادبا حريته، أو محروماً كرامته، لكي يعصر لهم قلبه أدبا من الأدب الذي يرتضون... والحق أن ليس شيء من هذه الأسباب يصلح حجة لما يرون من ضرورة الألم للأديب كي يكون عندهم أدباً حقاً، وكي ينتج لهم أدباً.

1951*

* باحث وأكاديمي لبناني «1910 - 1987»