عبدالعزيز مشري

يبدو ليّ أن الكاتب مـهـمـا يكـن بـعـيـدا في تناوله الكتـابي عن واقـعه، فإنه لا يستطيع أن ينفصـل عـنه، وذلك لسبب أرى أنه لا يـحـتـاج إلى شـهـود، وهـو أن الطبيعة الإنسانية تعود في تراكيبها إلى أساسها الأول، ذلك الأساس المنشأ الذي أمكنه من خلاله تحديد وظائف قنوات المعرفة لديه، تلك الزائفة الحسية «الأولى» التي انطلق منها إلى تحـديـد قـيـمـة الأشياء.. الـقـيـمـة المـعـرفـيـة، وهي تأخذ في تشكيل لونها وطعمها ونكهة حسها عندما كان يتلقاها في حدود الحضن - الأول - هناك، حيث تبدأ أبجديات الحروف، واستقامة المفهوم الشامل لمعنى إدارك الأشياء، ومن ثم نوعية العلاقة بها.

أما مسألة الكشف عن حقائقها وواقعية جواهرها، فتلك ترتبط على امتداد العمر بحكم التجربة والثقافات المكتسبة مع تعدد الوسائل.

الكاتب هو نفسه غير الكاتب الفرد الطبيعي الذي لا يـخـتـلـف عـن البـقـيـة.

بعيدا عن المميزات الإبداعـيـة التي تربت على يدى المـوهبة، إنه هـو ذلـك الإنسان الفـرد البسيط الذي يتلقى معطيات المعارف الحيـاتيـة مثلما يتلقاها الآخرون.

الفرق هنا هو كيف يكون مـقـدار تعامله واحـتـفـاله بها؟ ما هو مـقـدار التلاؤم الحسي بالأشياء مع مـسـتـوى الموهبة؟، تلك الموهبة التي تصنفر المتلقيات، وتنظر إليها کشیء مختلف عما تراه العين العادية، تلك النافذه الحسية التي تدخل منها ذات الشموس وذات الرياحات المارة على كل العبـاد، لكنها عنده تكون بتفسير آخر، أكثر تفصيلا ورحابة واستضافة وإكراما.

هو لا يملك شيطانا للإلهـام ولا يـحـزنـون، بل يملك قـدرة منظور بحكم التجربة، ومقدار إتاحة المكان الفسيح لترعرعها وتنميتها، وبمقدار استخلاصها بأمانة وصدق. إن الإبداع الكتابي الناجح هو ذاك الذي يقـترب من حقيقة الأشياء، «الحقيقة» الكامنة في الداخل، التي لا يجرؤ على كشفها الآخرون.

الحقيقة الصـافـيـة العـذبة والمشتبكة في الوقت نفسه.. تلك التي لا يمكن لأحد أن يقبض على زئبقيتها المراوغة. لذلك يختلف المبـدعـون عـن بعضهم البعض، ومع هذا قد يكونون نشأوا في العالم نفسه، والبيئة نفسها، بل البيت والظروف نفسها.

إذن، فـمـاذا تعني الكتابة بالنسـبـة للكاتب؟ ولماذا يلجأ إلى هذا الرشق الحـمـيـمى المر؟.

لا أريد أن أتحدث عن الواجهات القـشـورية للأهداف الكتـابيـة.. لا أعني أولئك الصناع الذين يـحـمـلـون بـطـاقـات الجـواز الاجتماعي والمناسبات والحفلات.. لا، بل أتحدث عن الكتابة الإبداعية بسموها نحو العلو، لاكتشاف الحقيقة..

تلك الكتابة، التي يكـون مـدادها من الحس والدم، ليس بالضرورة أن تكون في حقل إعـجـابي أو تذمري، بل إنها تمسني وتمسك، تقول ما لا تقدر أنت على قوله، فتصرخ «ليتني كتبتها».

إن الأغلبية ممن يسمون أنفسهم «الكتّاب» ليسوا من جماعة ذلك المركب. إنهم يقـحـمـون ذواتهم، لكي يـرضـوا الرغـبـة والمطمح. المسألة ليست رصـد الأشياء، وسـرد الحوداث، وليـسـت فـرض الأصابع على المسك بالقلم، وتسويد بياض الورق، فليقل الآخرون إن هذا عـمـل كـتـابي روائي - مثلا - لا غبار، ولكن ما هو القياس المنطقي الذي لا منطق له، والذي يستطيع أن يتفسح مع الكتابة الإبداعية في جولتها الرحبة الزاهية؟.

قـد تقـرأ عـبـارة أو سطرا ضمن السـيـاق الروائي، فتجد أنه يفعل بك كما تفعل أسرة الفقرة الشعرية المكتظة بكل قوانين الجمال والمعني، والنغم والبـيـان، لكنك تقرأ عبارة سهلة، ولا تبدو بهذا القياس المقولب الذي اسمه «شعر» الآن.

كيف يرى مجتمع تتنهبه المزالق الاستهلاكية، وتطوف به السبل المتخلفة، فتغرق في ذهنه ذوقا تافها، تقليديا وهابطا؟ كيف يرى الكاتب، وكيف يتـعـايش الكاتب.. تلك المعايشة التي لا اختيار له فيها، ولا يجوز له أن يقيس طمـوحـه الإبداعي من خلالها؟

كيف يستطيع الكاتب الملاءمة بين إبداعه الكتابي وبين المناخ الاجتماعي القاصر النظرة، والأمي القراءة، والفقير الثقافة؟، فالكاتب سيدخل في دهاليز معتمة، وما جدوى الكتابة، والنفور من مرارة الواقع المتلقي لما يبدع، فلمن يكتب؟ ولماذا؟.

إني لن أجـيـبـك عـن مثل هذه الأسئلة الصحفية، لكنني – وعلى ضوء التجربة المعرفية - سأقول:

عليه أن يكتب.. بالطبع قد يكون في هذا تجريد، غير أنني لا أعني مخاطبة الواقع الاجتماعي البعيد عنه باستعلاء كما يخاطب رؤوس الفجل..

بها أعود إلى تلك المنطقة التي قلت فيها: إن عليه أن يكون كل شيء.. المهندس والطبيب، والمصلح و.. إلخ. القياس هنا قياس لا يستطيع أن يتفلت منه، لأنه يريد أن يـقـول شـيـنـا مـهـمـا وصـادقـا وفعالا، وإلا فإنه سيبقى مستهلكا معاندا للحبر والورق.

إنه إذا كان يستحي من نفسه، فسيعلن لها توقفه، وليـبـحـث عـن شيء آخـر يفرغ فيـه طـاقـتـه، فالإبداع ليس له مهما فرش له البسط والطنافس المريحة.

إن مسألة كهذه تبقى رهينة الصدق والمعرفة بمسـتـوى الإنتاج بين أيدي المتلقين على مـخـتـلف مـسـتـوياتهم. من هنا، فـإن أهم شـروط النجـاح الإبداعي هو الأمـانة والصدق مع الذات الإنتاجية في قاعدة الإبداع. نعم.. تستطيع أن تبقى زمانا توهم خاطرك بأنك ذو موهبـة كتابية، لكن حقيقة الفعل الإبداعي، إذا لم تكن حميمة معك، وحبيبا لها، فلن يكون إبداعـا.. سـمـه ما شئت أو أوهـم داخلـك مـا شـئـت إن كنت لا تحـاسـبـهـا بصـدق، فالمنطق الإبداعي الذي يسايرك به الآخرون على حساب ذوق البشر، وإفـسـاد مـفـاهـيـمـهـم، وفـوائد الإبداع وشروطه، لا يلبث أن يذهبـه غـربال الأيام – التـاريخ - القاريء ذو الحس.

الكتابة الإبداعـيـة هي النبض الإنساني المرهف، وليست تكدسات السطور على الورق، ولا إرضاء الآخرين، للحصول على مكافأة التصفيق.

إنها تلك التي تشبه إلى حد ما المعدن الثمين المطمور في الأرض. أمـا الـدخـان، فـإنه يعلو إلى الفضاء، لكنه يبقى دخانا.

1992*

* روائي وصحافي سعودي «1955- 2000»