جدة: عائشة العمودي

في الوقت الذي احتفلت فيه كثير من دول العالم بعودة الحياة إلى طبيعتها، معلنة قهرها قلق فيروس «كورونا» الذي أطبق على الحياة على مدى نحو عامين تقريبا، كانت قصص الاحتفالات خلف الأسوار المرتفعة والبيوت المغلقة مختلفة إلى حد ما، حيث بقي كثيرون مترددون في العودة إلى عناق الأحبة، وتقبيل أيادي الأجداد والجدات، وبقيت خشية الإصابة بالمرض أو نقل عدواه إلى الأحبة سائدة، على الأخص لدى هؤلاء الذين فقدوا أحد الأحبة خلال أزمة «كورونا»، وهو الحدث الذي حفر عميقا في وجدانهم، ولم يستطيعوا التخلص من عبء آثاره، أو لعلهم يرفضون في أعماقهم أن يتخلوا عن الحذر، فيسهمون دون قصد في إصابة مزيد من الأحباب.

رفع الاحترازات

في المملكة مثل كثير من دول العالم، أُعلن رسميا رفع الإجراءات الاحترازية والبروتوكولات الوقائية، وعادت الحياة إلى طبيعتها، وتلقى السعوديون ذلك الإعلان بمشاعر مختلطة بين الفرح والخوف والسعادة والقلق، وما هي إلا ساعات حتى استغنى البعض عن الكمامة، ورماها بعيدا، وعاد مقبلا على الحياة، محاولا استعادة كثير من عادات التواصل والاتصال الجسدي التي افتقدها خلال العامين الماضيين، وحضور التجمعات مثل الصلاة الجماعية ومناسبات العزاء والأفراح ولمة الأصدقاء.

لا أريد فقد ابني

على الرغم من عودة الحياة إلى طبيعتها، تصر منى محمد فكرت، على رفضها عناق ابنها المصاب بنقص مناعة وفشل كلوي، مؤكدة أنها لا تريد فقده.

وعلى الرغم من مضي وقت على رفع البروتوكولات الاحترازية، فإنها ما زالت حتى هذه اللحظة تمتنع عن استقبال أفراد أسرتها، وترفض الخروج للحياة الطبيعية. وقالت: «نعم، أحتاج إلى الحياة التي أفتقدتها خلال عامين تقريبا.. صحيح أنني عشت عامين استثنائيين غاب فيهما التواصل والمصافحة وتقبيل حتى ابني، وفقدت خلالهما والدتي في غضون أيام بسبب «كورونا»، وكم أنا حزينة، لأنني لم أتمكن حتى من تقبيلها في نعشها ودفنها، لكن عودة الحياة إلى طبيعتها، كما يقولون، ما زالت في رأيي غير كاملة، وهي تحمل في طياتها عدة أسئلة تجعلني أزداد قلقا وتوترا على ابني.. سأعمل على أخذ الجرعة الثالثة من اللقاح، فقد فقدت أما، ولا أريد فقد ابن».

وقت للتأقلم

يبين الدكتور النفساني جمال الطويرقي أن البعض قد يحتاج إلى فترة، تمتد عدة أشهر، للعودة إلى التواصل الجسدي، على الرغم من عودة الحياة إلى طبيعتها، ورفع الإجراءات الاحترازية.

ويقول «الطويرقي»: «ثمة آثار نفسية واجتماعية عدة ترتبت واستقرت نتيجة العزلة التي فرضتها الجائحة، والتخلص من هذه الآثار، والعودة إلى تقبل التواصل الجسدي يحتاج إلى وقت، وهذا ما أثبتته عدد من الأبحاث الأمريكية والأوروبية، ومن تلك الآثار زيادة الاكتئاب والقلق والتوتر، بالإضافة إلى زيادة حالات الانتحار في بعض الدول نتيجة العزلة وغياب التواصل الاجتماعي، فالإنسان بطبيعته كائن اجتماعي، وكان سابقا يتواصل خلال اليوم الواحد في عدد من المناسبات المختلفة، خاصة في مجتمعنا الإسلامي بعباداته وعاداته التي تغير كثير منها خلال الجائحة».

ويؤكد: «هناك زيادة ملحوظة في حالات القلق والتوتر والرهاب الاجتماعي التي تحتاج عند البعض إلى شهور حتى تخف وتنتهي، بينما البعض يحتاج إلى علاج نفسي وطبي مثل الجلسات الطبيعية أو العقاقير، للتأهيل والرجوع إلى الحياة الطبيعية».

ويوضح «الطويرقي»: «شدد أطباء الطب النفسي على الحصاد الذي ستفرضه الجائحة عند عودة الحياة لطبيعتها بسبب فقد البعض شخصا عزيزا عليه نتيجة العناق والمصافحة والتواصل الجسدي، مما يدفعه إلى رفض العودة للحياة الطبيعية، ويجب في حالة مثل هذه الأمراض العمل من قِبل الأطباء على توعية المجتمع من الناحية النفسية، للخروج من تأثيراتها السلبية».

المسارعة إلى العناق

خلافا لما فعلته منى محمد فكرت، كان الحال مغايرا مع نادية الشريف التي تقول: «تلقيت خبر رفع الإجراءات الاحترازية بفرح لا يوصف، وكانت والدتي التي تجاوزت الثمانين من العمر أول من خطر في بالي في تلك اللحظة، فقد كانت تعاني، بالإضافة إلى تقدمها في السن، بعض الأمراض، ولذا تجنبنا جميعا خلال فترة الجائحة عناقها، وحتى تقبيل يدها، وما إن سمعت بالخبر، حتى انطلقت بسيارتي من جدة، متجهة إلى ينبع، حيث تقيم والدتي شبه منعزلة مع أخي الكبير.. كانت دموع الفرح تغلبني، وما إن وصلت إليها حتى ارتميت في أحضانها، وأخذتها في عناق طويل، افتقدته كثيرا، بينما كان ضجيج إخوتي حولي، بعدما سبقوني إليها».

وتكمل: «سجدت شكرا لله على هذه النعمة، وتذكرت معاناة أن أمضي قرابة السنة ونصف السنة الأخيرتين دون أن أعانق والدتي أو أقبلها، وكم أحببت في تلك اللحظة ضجيج أصوات إخوتي الذي افتقدته أيضا بسبب الجائحة، التي فرضت علينا عدم الاجتماع في بيت الوالدة، حرصا على سلامتها، على الرغم من أنها أخذت الجرعة الثالثة من اللقاح المضاد لـ«كورونا» والحمد لله».

مثل الهلال

أعربت نورة بن محفوظ، وهي خريجة علم اجتماع، عن سعادتها بعودة الحياة إلى طبيعتها، ووصفت خبر تلك العودة بأنه يشبه خبر رؤية هلال العيد. وتقول: «فقدنا بعض التواصل الجسدي، حيث افتقدنا العناق والمصافحة، وحتى صغارنا فقدوا كثيرا من العادات الجميلة مثل تقبيل رأس الجدة والجد، وتقبيل يد الأعمام والأخوال. كما كدنا ننسى ملامح ابتسامات كثيرين جراء ارتدائهم الكمامات».

- تباين في تقبل العادات الاجتماعية التي كانت سائدة قبل «كورونا»

- البعض يرفض العودة للتواصل والاتصال الجسدي

- كثيرون يحتفظون بذكرى فقدان عزيز خلال الأزمة

- الذكريات المؤلمة تدفع أصحابها للتمسك بالتباعد