ثار جدل بين الكيميائيين العرب حول مصطلح «الكحول» وكيف يمكن الاستعاضة عنه بـ«الغول» في الكتب والمراجع العلمية المتعلقة بعلم الكيمياء الحديث. ونقصد بالكحول هنا مجموعة المركبات العضوية التي تحمل مجموعة الهيدروكسيل (OH-). فالمركبات الكحولية -من زاوية كيميائية- من المواد الأساسية في صناعة المستحضرات الصيدلانية وتحضير الأدوية الطبية، كما أنها مركبات أساسية في تحضير المواد التجميلية والعطور والمواد المطهرة القاتلة للفطريات والبكتيريا. فـ«الكحول» من زاوية علمية يبدو مصطلحا حديثا ليس له ارتباط بالتراث القديم، ولكن هذا الاعتقاد غير دقيق البتة. مصطلح الكحول «Alcohol» في واقع الأمر يعود بأصله للتراث العربي القديم، وهذا تأكيد على قولنا إن اللغة في مستوياتها الفصيحة أو الرسمية لا تتطور ولا تتفاعل مع حركة المجتمع الحديث ودائما ما تعود للتراث والماضي البعيد لمجاراة التطور الذي يحدث في المجتمع الإنساني.

«الكحول» مجرد محاكاة للفظة العربية «الغول» المذكور في القرآن الكريم في سورة الصافات: (لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون)، والآية الكريمة تصف خمر الآخرة مقارنة بخمر الدنيا الذي يغتال العقل ويذهبه ويسبب صداع الرأس. وفي التراث العربي أصبحت المادة المسكرة الموجودة في الخمور تسمى «الغول». ومن هنا سافرت هذه اللفظة لثقافات متفرقة بحكم التلاقي الثقافي بين الشعوب. فلفظة «الكحول» ليست إلا تسمية متحورة للتسمية الأصلية «الغول» بدليل أننا نلاحظ التقارب الصوتي بين لفظتي غول وكحول.

ومن المفارقات الطريفة في كلمة الغول أنها في الأصل تسمية دينية شاع استعمالها علميا في التراث العربي بفضل وجودها في القرآن الكريم. ثم انتقلت لمجتمعات غير عربية وأُطلق عليها تسمية (Alcohol)، ثم عادت للعرب مجددا وصاروا يسمونها الكحول بدلا من الغول. وهناك بعض الكتب العلمية المختصة في الكيمياء العضوية والكيمياء الصيدلانية فضلت إعادة إحياء المصطلح القديم «الغول» للتعبير عن المركبات العضوية التي تحمل مجموعة الهيدروكسيل (OH-)، وهي لا تقتصر على المشروبات المسكرة بل تشمل كما كبيرا من المركبات والمواد الكيميائية ذات الاستعمالات العلمية واسعة النطاق. ولكن مصطلح الغول واجه حربا ضروسا من المصطلح الأجنبي ووجد نفسه ينهزم على أرضه وبين جماهيره، ويفسح الساحة للمصطلح المتحور الكحول.


في هذه الجولة المكوكية لكلمة «الغول» عبر التاريخ والعصور القديمة والشعوب والثقافات المختلفة نستطيع أن نستخرج بعض الفوائد اللغوية، وأهمها أن مستوى اللغة الفصيح -وفي الاستعمالات العلمية تحديدا_ يحتاج للتراث، وهي تنمو وتزدهر على صورة معيارية غير متطورة تعيش في التراث. وكلا المصطلحين -الكحول والغول- تراثيان ولكن لأن العرب اليوم يعيشون حالة تأخر علمي فإن مصطلح الغول عجز أن يفرض نفسه في ساحة التداول العلمي بعكس مصطلح الكحول الأجنبي الذي وجد رواجا كبيرا في الأوساط العلمية، مع أنه مجرد تحور أو تشوه صوتي لـ «الغول»، وفي كلتي الحالتين العودة للتراث والماضي البعيد حتمية لا مفر منها، فاللغة في مستوياتها العليا تراثية لا تتطور بل تقاوم التطور كي تعيش وتزدهر.

المركبات العضوية التي تحمل مجموعة الهيدروكسيل (OH-) لا وجود فعلي لها في الماضي فهي من اكتشافات العصر الحديث، ولكن اللغة عندما أرادت أن تمنح هذا الكائن الغريب لفظا يدل عليه ويجمع شتات فصائله في دلالة واحدة، فإنها وكعادتها تقهقرت للوراء للتراث القديم، وبذلك هي تواجه التطور وتقاوم الموت.