الوعي بالتراث هو وعي بالذات وبالامتداد التاريخي للأمم، إذ يُشكل الإطار الذي تنمو داخله القيم وتتبلور الرؤى الفكرية والاجتماعية. فهو ليس محض سجلٍ للماضي، بل معينٌ متجدد يحمل في طياته عناصر الاستمرارية والتحول، ما يجعل منه مصدرًا ثريًا للنهضة والتجديد. وقد اعتمدت هذه الدراسة منهجًا أنثروبولوجيًا لفهم التراث ليس ككيان منفصل، بل كجزء من النسيج الحي للمجتمع، الذي تتفاعل فيه العادات والتقاليد مع التطورات الفكرية والاجتماعية.
التراث هو الحاضن للهوية الثقافية، فهو مستودع التاريخ الحي الذي يجمع بين المادي واللامادي، بين النصوص والرموز، وبين الفنون والممارسات اليومية. وهذا ما يجعل الحفاظ عليه ضرورة لضمان استمرارية الشخصية الحضارية لأي مجتمع. فليس من قبيل المصادفة أن يكون التراث عنصرًا أساسيًا في تشكيل الوجدان الجمعي، حيث يستمد الأفراد من موروثهم المشترك إحساسهم بالانتماء والهوية.
وقد كان الفن إحدى أبرز الوسائل التي جسدت التفاعل الحي بين التراث والمعاصرة، حيث برز في المشهد الفني الإماراتي نموذجٌ فريدٌ لهذا التفاعل. فمنذ البدايات الفنية الأولى، استطاع الفنانون الإماراتيون استلهام روح التراث بأساليب إبداعية متجددة، حيث لم يكن انفتاحهم على المدارس الغربية مدعاةً للقطيعة مع موروثهم، بل كان دافعًا لإعادة اكتشافه بعيون جديدة، وإعادة صياغته ضمن رؤى حديثة تحمل ملامح الأصالة والتجديد.
التزاوج بين التراث والفن المعاصر لم يكن مجرد استعادة للماضي، بل عملية إبداعية مستمرة، يعبر من خلالها الفنانون عن رؤاهم المستمدة من جذورهم الثقافية، دون أن ينغلقوا في قوالب تقليدية. وقد انعكس هذا الوعي في تنوع الاتجاهات الفنية التي ظهرت في الإمارات، حيث دمج الفنانون بين العناصر التراثية والأساليب الفنية المستحدثة، مما منح أعمالهم طابعًا خاصًا يميزها عن غيرها.
هذا التفاعل بين التراث والمعاصرة ليس حالة استثنائية، بل هو سمة من سمات الثقافة الحية، التي لا تبقى رهينة الماضي، بل تعيد إنتاجه وتطويره باستمرار. وهو ما يجعل من التراث عنصرًا ديناميكيًا في الحركة الإبداعية، فهو ليس مجرد إرثٍ محفوظ، بل قوة متجددة تستمد زخمها من الزمن، وتغذي الحاضر بأبعادها المتجددة. إن تجربة الفن الإماراتي في هذا الإطار تقدم نموذجًا حيًا لجدلية الماضي والحاضر، حيث يصبح التراث مصدرًا للإبداع، وتتحول الهوية إلى جسرٍ يربط بين التقاليد ومتطلبات العصر.