تَجلَّت هذه الرؤيةُ الاستشراقيّةُ الاستعلائيّة في محاضرةٍ ألقاها إرنست رينان في السوربون في العام 1883، زعمَ فيها أنَّ الإسلامَ والمدنيّةَ لا يتّفقان.
قال رينان: «كلُّ مَن كان مُطّلعًا بعض الاطّلاع على أحوال زماننا، يُشاهِد بوضوح انحطاطَ البلدان الإسلاميّة الحاليّ، وتقهْقُر الدول الخاضعة لحُكم الإسلام، وانعدام معالِم الفكر لدى الشعوب التي اقتبَست عن هذا الدّين وحده ثقافتها وتربيتها، فجميع مَن يؤمّون الشرق أو أفريقيا، يُدهشهم ضيق التفكير المحدود بصورةٍ حتميّة لدى المؤمِن الحقيقي، وذلك الطوق الحديدي الذي يُطوِّق رأسه، فيَجعله مُغلَقًا بإحكامٍ في وجه العِلم وعاجزًا عن الانفتاح على فكرةٍ جديدة».
وفي الفكر الغربي نماذج أخرى مُتماثِلة في التعبير عن دونيّة الآخر العربي وفوقيّة الذّات الأوروبيّة.
ففي دراسةٍ للكاتب الفرنسي أندريه سرفيه، رأى سرفيه أنّ «العرب لا يملكون ثقافةً مُستقلَّة، وما يُعرف بالثقافة العربيّة ليس الّا ثقافة مُستعارة... نَقَلَها العربُ كلَّها عن الأُمم الأخرى... وبمرور هذه الثقافة من خلال العقل العربي الضيِّق العاجز عن التصوُّر الفلسفي الشامل، تشوَّهت هذه الثقافةُ وأُفسدت بكاملِ فروعها».
وفي دراسة وضَعها بعد حرب يونيو 1967، عبّر رفائيل بتاي عن نشْوتِه بانتصار إسرائيل بنزعةِ التعالي والسيطرة إزاء العربيّ المغلوب، زاعمًا أنّ العقلَ العربيّ يُشكِّل بنيةً ساكنة، لا فاعِلة، وأنّ اللّغةَ العربيّة التي تَعكس العقليّة العربيّة تقوم على العاطفة والغلوّ، وأنّ الإنسانَ العربي سجينُ هذه العقليّة ولُغتها.
ومن أبرز المُستشرِقين المُعاصرين الذين طَرحوا خطابًا استشراقيًّا ثمّة «فون غرونيباوم» و«برنارد لويس». فغرونيباوم في كتابه «الإسلام الحديث» رأى أنّ النظرة المُبالَغ فيها إلى اللّغة العربيّة والحضارة العربيّة الإسلاميّة تَدفع العرب إلى تقويم حضارتهم وأنفسهم تقويمًا غير واقعيّ ومُبالَغ فيه، من دون أن يُواجِهوا ضعفَهم وانقساماتِهم، فيما يدَّعون أنّهم «منبع الحضارة الغربيّة... ويشعرون أنّهم شعب مختار».
أمّا «برنارد لويس» فقد رأى أنّ «المعرفة التي اكتسبَها العرب عن أنفسهم في العصر الحديث، إنّما هي بمُعظمها معرفة أوروبيّة أَنتجها عصرُ التنوير الأوروبي، نُقلت إليهم بأساليب مباشرة وغير مباشرة، وهي ليست معرفة ذاتيّة».
ولم يتوانَ بعض المُثقّفين العرب عن الارتداد على الثقافة العربيّة في ما بدا تماهيًا مع فكر الاستشراق الذي أَلصق بهذه الثقافة كلّ سمات الجمود والانغلاق، ووضَعَها في قفصِ الاتّهام في ما آلَ إليه الواقعُ العربي من تراجُعٍ وتخلُّفٍ واستبداد.
فاعتبرَ الدكتور خلدون حسن النقيب في «آراء في فقه التخلُّف» أنّ «الذلّ والإذلال سمةٌ عامّة في الثقافة العربيّة، وأنّ إعلان العبوديّة أمرٌ مقبول في تراثنا».
وذهبَ فؤاد اسحق الخوري إلى أنّ «العنف من صلب تراثنا»، وأنّه، كأسلوبٍ للتعامُل، «جزءٌ من شخصيّتنا الاجتماعيّة والنفسيّة».
وفي السياق ذاته، ذَهَبَ ياسين الحافظ في «الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة» إلى أنّ هزيمة العرب تجاه الصهيونيّة إنّما هي في الأساس، وقَبل كلّ شيء، هزيمة حضاريّة. ورأى محمّد عابد الجابري أنّ «العقل العربي» هو ما يَجب أن تتّجه إليه أصابع الاتّهام، وبشكلٍ جدّيٍّ وصارِم، كونه الأداة التي بها يَقرأ العربيُّ ويَحلم ويُفكِّر ويُحاكِم.
خلافًا لهذه الرؤية الاستشراقيّة الاستعلائيّة والمتحيِّزة، اتَّخذ النهضويّون مَوقفًا دفاعيًّا مُضادًّا أَعلن تقدُّمَ الحضارة العربيّة الإسلاميّة وتفوُّقَها على الحضارة الغربيّة، طارحًا خطاب «الاستغراب» بتعبير حسن حنيني، في مُواجَهة خطاب الاستشراق.
كان قد ذهبَ في هذا الاتّجاه بعضُ النهضويّين الأوائل، فقال رفاعة رافع الطهطاوي إنّ «الإفرنج يعترفون لنا بأنّنا كنّا أساتذتهم في سائر العلوم وبقِدمِنا عليهم. ومن المُقرَّر أنّ الفضلَ للمُتقدِّم».
ورأى خير الدّين التونسي أنّ «مخالَطة الأوروبيّين للأمّة الإسلاميّة كان ابتداءَ التمدُّنِ عندهم».
واعتبرَ فرنسيس مرّاش أنّ كلّ ما يَفخر به الغربُ من علومٍ وآداب وطبّ وحساب وعمران وزراعة، إنّما أُخذ عن العرب سرقةً واختطافًا. كما ذهبَ محمّد عبده إلى أنّ مدنيّة الإسلام كانت السببَ الرئيس في نهضة أوروبا، فيما رأى رشيد رضا أنّ «الحُكمَ الدستوريّ هو أصلٌ من أصول دينِنا، فنحن قد استَفدْنا من الكتاب المبين، ومن سيرة الخلفاء الراشدين، لا من مُعاشَرة الأوروبيّين».
الأفغاني وجرجي زيدان
خلافًا لرؤيتَيْ الاستشراق والاستغراب المُشار إليهما أعلاه، ثمّة رؤية موضوعيّة تاريخيّة ترى إلى الإشكال بين الحضارتَيْن الغربيّة والعربيّة الإسلاميّة من منظورٍ تاريخيّ، وليس من منظورٍ إتنولوجي ستاتيكي يُسنِد إلى الحضارات سماتٍ ثابتة، ميتا تاريخيّة، لا تَخضع لمبدأ التحوُّل والتطوُّر والتغيير.
يَندرج في هذا الإطار مَوقِفًا جمال الدّين الأفغاني وجرجي زيدان. قال الأفغاني إذا كان من الصحيح أنّ العرب أَخذوا عن اليونان فلسفتَهم وعن الفُرس ما اشتهروا به، إلّا أنّهم رقّوا هذه العلوم ووسَّعوا نِطاقَها ونسَّقوها تنسيقًا منطقيًّا، وبلغوا بها مرتبةَ الكمال، ما يُبرهن برهاناً ناصعاً على مزاياهم الذهنيّة وحبّهم الطبيعي للعلوم.
لكنّ السبب الأوّل والعامل الأكبر في تدهْور الحضارة الإسلاميّة وضياع مجد المُسلمين مردّه إلى «ترْك حكمة الدّين والعمل بها»؛ وهي التي جَمعتِ الأهواءَ المُختلفة والكلمة المُتفرّقة، وما سبيل العرب والمُسلمين إلى استعادة قوّتهم ومَجدهم إلّا بالعودة الى أصول دينهم الذي يحضّ على المعرفة ويدعو الى العِلم، ولم تكُن الانتصارات العسكريّة في صدر الإسلام سوى رمز لازدهار المدنيّة الإسلاميّة، واتّفاق الحقائق المُنزَلة بواسطة النبوّة مع العقل البشري، لأنّ «الشريعة التي تسلَّمها النبيّ من الله هي شريعة الطبيعة نفسها».
أمّا جرجي زيدان، فقد عملَ في كتابه الموسوعيّ «تاريخ التمدُّن الإسلامي» بأجزائه الخمسة على دحْضِ المزاعم الاستشراقيّة التي شدَّدت على التخلُّف الإتنولوجي البنيوي للعرب والمُسلمين.
إزاء هذه المزاعم الاستعلائيّة المتحيِّزة أكَّد زيدان، بالاستناد إلى مصادر ومَراجع عربيّة وفرنسيّة وبريطانيّة وألمانيّة، إسهامَ المُسلمين الأساسي والمُميَّز في الحضارة الإنسانيّة. فقد نَقلوا إلى لسانهم معظم ما أَنتجته عقولُ البشر من أوّل عهد المدنيّة، ووثَّقوا علومَ الكلدانيّين والفينيقيّين والفرس واليونان والهنود وتفوَّقوا على هؤلاء، وأضافوا إلى ما أخذوه عنهم من العلوم، وكانوا أكثر اشتغالًا بالعِلم والأدب من أولئك، وكانت لهم إسهاماتٌ في الطبّ والفَلَك والترجمة والتعليم والفلسفة، وتُعدّ مؤلَّفاتُ المُسلمين بعشرات الألوف.
وتراوَح تاريخ العرب والمُسلمين، في رأي زيدان، بين التعصُّب في أزمان الانحطاط وبين مُحاسَنة النصارى واليهود وغيرهم من أتباع الأديان والمذاهب، حتّى أنّ الخلفاء كانوا يُشاركون النصارى في احتفالاتهم بالأعياد الكبرى كالميلاد والشعانين، وكانوا في صدر الدولة العبّاسيّة يكرّمون الأساقفة ويحاورونهم، حتّى أَصبح النصارى يهدون الخلفاء أيقونات بعض القدّيسين فيقبلونها منهم.
ويرى زيدان أنّ الدولةَ الإسلاميّة نشأتْ على المساواة والمؤاخاة والتعاوُن بين المُسلمين على اختلاف طبقاتهم حتّى أصبحوا يُخاطبون الخليفة كما يُخاطبون بعض أقرانهم. وقد حظيتِ المرأةُ في الإسلام باهتمامٍ كبير، واشتهرَتْ نساءٌ عدّة بالسياسة والإصلاح. من هنا لا يكتفي زيدان بتأكيد قابليّة العرب والمُسلمين للحداثة التنويريّة، بل إنّه أكَّد أنّ التمدُّنَ الإسلامي جزءٌ أساسيٌّ ومكوِّنٌ أصيل في تاريخ الحداثة الإنسانيّة.
وعلى الضدّ ممّا ذهبَ إليه محمّد عابد الجابري في أنّ أصل الخَلل في إخفاق المشروع النهضوي العربي يكمن في العقل العربي ذاته، الأداة التي بها يَقرأ العربي ويَحلم ويفكّر ويُحاكم، بما يُكرِّس فوقيّةَ العقل الغربي اليوناني ودونيّة العقل العربي، عمدَ جورج طرابيشي في كتابه «نظريّة العقل» إلى نفيِ مبدأ الإبداعِ من عدم، الذي تميل إلى تبنّيه كلّ نزعة إلى مركزيّة الذّات في الأنتروبولوجيا الحضاريّة المُقارنة، فأكَّد أنّ العقلَ اليوناني لا يُشكِّل بدايةً مطلقة، بل هو، بالرّغم من تميُّزِه، موصولٌ تاريخيّاً بما قَبله كما بما بعده، ولم يكُن في منأىً عن اللّامعقول (السحر، الشعوذة، العرافة)، إذ أَفسح له مجالًا واسعًا في الحياة العامّة والخاصّة. وليس من الجائز تحويل إشكاليّة العقل العربي من إشكاليّة إبستمولوجيّة إلى إشكاليّة أنتروبولوجيّة، بافتراض التناقُض المُطلَق بين العقليْن العربي والغربي اليوناني وفوقيّة العقل الغربي، وفقًا لاستنتاج محمّد عابد الجابري في «نقد العقل العربي»، حيث أعاد أصل الخَلَل إلى العقل العربي.
*كاتب من لبنان
* ينشر بالتزامن مع دورية افق الإلكترونية.