أشرنا في الجزء الأول من المقال إلى أول صراع وهو صراع الإنسان مع الطبيعة واعتبرناه متداخلاً مع (تاريخ تطور العلم) ونتابع مع ثانياً: صراع الإنسان مع أخيه الإنسان، وتاريخ تطور هذا الصراع هو تاريخ (تطور السياسة)، وهنا بابتسار شديد نبدأ مع «النياندرتال» الذي عجز عن تكوين تجمعات لنوعه تتجاوز الخمسين فرد تقريباً، فكلما تجاوز هذا العدد بدأوا في الانفصال، ورغم ضخامة جسده وقوة عضلاته لكن إمكانه العقلي لم يسمح له بتكوين تجمعات كبيرة لنوعه تصل لما يزيد على 500 فرد كما هي الحال مع الإنسان العاقل الأول، مما جعله يهزم النياندرتال في أي مواجهة (العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري/ يوفال نوح)، ليسيطر (الإنسان العاقل) بفضل إمكاناته في إدارة تجمعاته (البشرية) بأعداد كبيرة، ووفق تراكمات زمنية طويلة نشأت الحضارات القديمة لهذا الإنسان العاقل، وتطور الصراع بين الإنسان وأخيه الإنسان من (صراع قبيلة ضد قبيلة من نفس العرق) إلى صراع عرق ضد أعراق أخرى، ثم تطور الأمر مع الأديان ليصبح (مجموعة أعراق يجمعها دين أو مذهب) ضد (دين آخر أو مذهب آخر)، وهكذا وصولاً إلى (المجتمع المدني) وولادة مفهوم (المواطنة) الضامن والعاصم (نسبياً) مما يسمى في عصرنا هذا (الحروب الأهلية) داخل الدولة الواحدة، هذه القراءة تختزل بداخلها التطور السياسي في الفكر الإنساني من (الحق الإلهي) وصولاً إلى (العقد الاجتماعي) في إدارة صراع الإنسان مع أخيه الإنسان، بدأت بمبادئ سياسية بدائية تراهن على (القهر والغلبة) وتجمع بين (العصبية والدين) في السياسة لكن عمرها محدود بأربعة أجيال كأقصى حد (المقدمة/ابن خلدون)، وصولاً لمبادئ سياسية أكثر تطوراً ترى أن الغاية تبرر الوسيلة (الأمير/مكيافيللي) لكن عمرها مرتبط أكثر بالعصر الإقطاعي ما قبل الصناعي، وها هو زمن (العقد الاجتماعي) الذي يستمد شرعيته بقيامه على حماية (السلم الاجتماعي وفق معايير المواطنة) مع (العدالة والحرية والكرامة) باتجاه (دولة الرفاه) في انتقال مفهوم (العصبية والدين) إلى مفهوم (الوطنية والتنمية) بتوازن حكيم، فالإفراط في الوطنية يصبح (فاشية) والتفريط فيها يصبح (أناركية)، والإفراط في التنمية يصبح (ديكتاتورية كمبرادورية) والتفريط فيها يصبح (ديكتاتورية مافيوزية)، والحداثة شبكة من (توازنات التنمية المتنوعة) فلم يعد التطور والحداثة تقاس بمعطيات قديمة مشغولة بالبنية التحتية بل وصلت إلى (التنمية المستدامة) وغيرها من أنواع تشمل (البشر وعموم الكائنات من الشجر حتى الحجر) بكل ما في العبارة من شمولية يرى فيها العقل التقليدي (مبالغة) ويرى فيها العقل الحداثي إمكانات متفائلة بالمستقبل البشري على هذا الكوكب وكواكب أخرى.
ثالثاً: صراع الإنسان مع نفسه، وهذه المسألة هي الوحيدة التي تجد حلها في (الأديان والروحانيات) سواء الإبراهيمية أو الوثنية (كل جغرافيا بحسبها الديني وتاريخها الثقافي من أقصى الصين والهند إلى أقصى كندا والبرازيل)، وتبقى مفاهيم (العلم الحديث) في إدارة الصراع مع الطبيعة، ومفاهيم (السياسة الحديثة) في إدارة الصراع البشري (داخل الدولة وبين الدول)، لهما انعكاساتهما التي تجعل كثيرا من الديماغوجيين يأتون على شكل كتب ومفكرين يغذون أزمات (الهوية) ـ بقصد أو دون قصد ـ لتظهر أحياناً على شكل (ثآليل فكرية) لا تؤثر في الجسد الاجتماعي ما لم تقترب من جفن العين، وأحياناً على شكل (ورم حميد) قد يتحول إلى ورم سرطاني يقتضي البتر من الجسد، وهذا ما جعل أحد أقوى القادة العرب في العصر الحديث يختصر بالفعل لا بالقول كثيراً مما في (علم المستقبليات) من نظريات الاجتماع والسياسة والاقتصاد في ثلاثة أسطر: (لن نضيع ثلاثين سنة من حياتنا في التعامل مع أي أفكار متطرفة سوف ندمرها اليوم وفوراً، نريد أن نعيش حياة طبيعية، حياة تترجم ديننا السمح وعاداتنا وتقاليدنا الطيبة، ونتعايش مع العالم، ونسهم في تنمية وطننا ووطن العالم).