بما أنني أود الاحتجاج على الاتهام الموجه للقصيدة العربية، التي توصف عادةً بالقصيدة التقليدية أو العمودية، وخلاصته أنها خالية من الموقف الفلسفي والخيال التجريدي، على عكس ما يجدونه في الشعر الغربي، بحسب ما يزعم الزاعمون من عرب ومستشرقين، وليس الفرنسي إرنست رينان وحده، فلا بد من بعض المقاربات السريعة بهذا الصدد.

لم يكن العلم من قبل قد حاصر الوجود إلى درجة حشر «الكوارك» (هو أحد الجسيمات الأولية دون الذرية) في الزاوية، حتى يمكن القول إنه سوف ينهي الجدال الفلسفي حول المادية والمثالية، ولا يعود بيد أي معسكر من المعسكرين حجة ضد الآخر. هذا الحسم الذي يتوخاه العلم اليوم لم يكن في الماضي. كان أشد الماديين تطرفاً يطرح الأسئلة الفلسفية الطفولية، من أمثال ما وراء هذا الكون، وكيف ظهرت الحياة بهذه الألوان الكثيرة المحيرة.. ولكنه يميل إلى التعامل المادي مع الوجود، بينما المثالي كان يتصور الكون والحياة ملحقين بعالم آخر، بعالم له نظام غير هذا النظام، أو مثل هذا النظام، ولكن بترتيب أعلى وبخلو من العاهات والعلل التي في هذا العالم، مع قدرة خارقة في التحكم بهذا العالم، إن أراد.

التيار البابلي


ونوجز فنقول: نجد النظرتين بأبرز تجلياتهما في منطقتين عريقتي الحضارة والثقافة، الفرات ووادي النيل. فالبابليون يميلون إلى النظرة المادية، فيرون، باختصار، أن الإنسان فان، وأن الخلود منوط بالآلهة وحدهم. ولما ظهرت الثورة الزراعية لم تؤثر على المعتقد البابلي، بل ظل الناس على إيمانهم القديم، فتموز الراعي صار إله خصب، قتل وأخذ إلى العالم الآخر، ولكن عشتار أعادته في فصل الربيع، حين عادت الحياة إلى الطبيعة.

أما المصريون فيرون العكس، أن الآلهة يمكن أن تضمن الخلود للإنسان إذا عمل بما يرضي رغباتها. وفي الآخرة يخضع لمحاسبة «ماعت» ربة العدالة، التي تمسك بميزان دقيق، وبه تقدر استحقاق هذه النفس للخلود أو عدم استحقاقها.

ليس المهم أن البيئة العربية سارت في التيار البابلي، أو توصلت إلى معتقداتها من تجاربها وملاحظاتها الخاصة، ما يهمنا أنه ليس هناك إيمان بعالم آخر «إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين»؛ والآلهة أشبه بدمىً يؤتى بها تفاؤلاً، فإذا لم يتحقق التفاؤل تخلوا عنها، أو جعلوها طعاماً، إن صنعت مما يؤكل. فالعادة في الميثولوجيا أن تسند المهمة إلى إله آخر، فيزيح سابقه عن عرشه كما فعل كرونوس مع أورانوس، وزيوس مع كرونوس، فالآلهة مخلدون لا يموتون، وإن ابتلعوا لا يهلكون، وإنما يزاحون عن العرش حين يسخط الناس على أدائهم، لسبب من الأسباب.

شعراء الطرب

كان العرب يتحكمون بآلهتهم، فأعدوا الآلهة للقتل والأكل في المرحلة الذكورية، والغريب أن صرعاهم من الآلهة كانوا ذكوراً. ولا تفسير لذلك سوى أنهم ظلوا يوقرون المرأة في المرحلة الجديدة فاحتفظوا بآلهتها. لكن عقيدتهم الأساسية «إن هي إلا موتتنا الأولى، وما نحن بمنشرين» ظلت وطيدةً في القصيدة العربية التي تتكرر على شكل الدمار والخراب والرحيل، فلا رجاء فيها، ولا إيمان، وإنما شوق وحنين إلى الأرض والمرأة، وهذا ما لم يظهر في أي أدب في العالم. وظل الأمر على هذا إلى أن ظهرت الصوفية، وجرى ما جرى، فانهارت القصيدة وانهارت الدولة. ولكن لماذا ظهرت «القصيدة» عند العرب؟ هل هي مصادفة أم نتيجة نظرتهم الفلسفية إلى الحياة، هذه النظرة التي نجد ملامحها في أحدث اتجاهات الفلسفة الحديثة؟

لا نجد هذا النوع عند أي شعب من الشعوب. وقد أثرت القصيدة، كإطار فني، في الأدب الشرقي تأثيراً بعيداً، كالأدب السرياني والأدب الفارسي، والأدب التركي... فقد أخذوا بالأوزان الشعرية، والقافية، وسوى ذلك. كما أفضت التطورات التي صارت إليها القصيدة، في الأندلس، إلى دخول عديد من المؤثرات في الشعر الغربي، على يد شعراء التروبادور (شعراء الطرب) كما يلاحظ في السوناتا والستانزا... بيد أن هذه التأثيرات اقتصرت على الأوزان والقوافي، فقد ظل الوقوف على الأطلال والنسيب ورحلة الصيد وصولاً إلى الغرض (كالمديح أو الاعتذار أو الفخر...)... ميزات تنفرد بها «القصيدة» من بين بقية الأنواع الشعرية العربية، ولم تدخل في أي شعر آخر، لا الشعر السرياني ولا الفارسي ولا التركي ولا الغربي...

هناك، إذن، ظاهرة خاصة، لا بد أن يكون لها مفردات خاصة. ومن هذه المفردات يمكن أن نستخلص النظرة الفلسفية إلى الحياة والواقع.

مفردات خاصة

سوف نختصر كثيراً فنقول إن المفردات الخاصة التي أدت إلى الموقف الفلسفي العفوي في القصيدة العربية هي: الصحراء والصيد والمرأة. ويمكن لغيرنا أن يضيف مفردات أخرى، ولكننا نظن أن هذه المفردات أهم من غيرها امتداداً زمنياً، وتأثيراً فنياً، وموقفاً من الحياة والوجود. ونبدأ بمفردة الصحراء. ترى ألا توجد غير الصحراء العربية؟ بلى ثمة صحراوات كثيرة، ولكن الصحراء العربية وحدها تفردت بالشعر، وظهر منها هذه الأدب العالمي الضخم (يعد ثاني أضخم أدب من حيث الكم، بعد الأدب الصيني). ثمة صحاري: كبيرة ومتوسطة وصغيرة، والمعروف أن الصحاري تتقارب في صفاتها البيئية، وفي طريقة معيشة سكانها، كما تتقارب المناطق الباردة أو الحارة، فلماذا لم تنتج تلك الصحاري أدباً كما أنتجت الصحراء العربية؟ سوف نرى أن الموقف الفلسفي من الوجود والموجود، هو ما جعل هذه الصحراء تقدم قصيدةً قائمة على فلسفة ثابتة. ولكن لماذا نوغل في التساؤل، ونحن بصدد منحىً خاص للوصول إلى غرضنا؟ نوجز فنقول لولا الصحراء لما وصل العرب إلى هذه النظرة الفلسفية من الحياة: الزمان كفيل بتدمير الوجود والموجود. بالطبع ليس الصحراء وحدها، ولكن للصحراء تأثيراً كبيراً جداً، حتى إن أثرها يكاد يظهر في جميع القصائد التي في مكتبة «الحيرة» أو القصائد المروية في «البصرة»، مع كثير من النحل. ولا حاجة إلى تعداد التأثيرات الصحراوية في الشعر العربي القديم، فهي أكثر من أن تحصى... يكفي أن نذكر أنها دفعت العرب إلى تجسيد آلهتهم بالصخور والحجارة، بل جعلوا بعض الكائنات، والظواهر الطبيعية، تخرج من قلب هذه الصخور والحجارة، أو قد يتحول البشر إلى آلهة، ولكن بتجسيد صخري، كما في إساف ونائلة (شخصان ارتكبا الفحشاء في الكعبة فمسخا حجرين، ولما عبدت الأصنام عبدا معها كما قالت العرب).

عشق يتميز بالحسرة واللوعة

المفردة الثانية هي الصيد، فمجتمع الصحراء العربية من أواخر المجتمعات التي لبثت طويلاً في مرحلة الصيد والرعي، وحياة التنقل والارتحال، بخاصة قبل ظهور الممالك الأكثر تنظيماً، في تلك البيئة. لو كانت الثورة الزراعية اجتاحت هذه المجتمعات، لكان للأدب مسار آخر، فعلى سبيل المثال لا وجود لآلهة الخصب، فلا وجود لبعث وقيامة. وفوق هذا كان الخصب الموسمي الطبيعي يؤدي إلى القتال والغزو، فكان لهذا دوره في النظرة إلى الحياة. ولا نعتقد أن القصيدة الجاهلية عبارة عن تنسيب ومعبر للتأهيل، كما يرى بعض النقاد. نظن أن نظرتهم المادية جعلت التنسيب يتم عبر تدريب الحابل والنابل، إعداداً لمجتمع الصيد، ولم يكن الصيد بالصقور قد انتشر في تلك الأيام حتى يجري التدريب عليه. أما الطقوس الدينية، كما في المعابد المصرية، وفي الاحتفالات الإيليزية اليونانية، حيث يجري تلقين المنتسب بالأسرار الخاصة... فلا تنسجم مع موقفهم الفلسفي من الوجود والموجود، فلم يكن لعرب الجاهلية دين معين تتفق عليه قبيلتان، بل قد تظهر آلهة متنوعة في القبيلة الواحدة. كان التدين حراً إلى أبعد حد. والمجمع المقدس (البانثيون) الجاهلي يعد من أرقى الظواهر، فكل من يعبد وثناً يأتي به إلى هذا البانثيون، فكأنهم بعملهم هذا يقومون بتوطيد السلم القبائلي والأهلي معاً، أما الحروب الدينية فلم تعرفها الجاهلية. المفردة الثالثة هي المرأة، فالمجتمعات الجاهلية من أواخر المجتمعات الأمومية في العالم، حتى إن الصبي يجب أن يمضي فترة معينة عند أخواله، ليتعلم الصيد بالحبال والنبال، ويتدرب على الشعر إن كان لديه استعداد. واللغة العربية تعكس هذا الوضع، فمعظم الأسماء مؤنثة. ربما أخطأ العرب فأنثوا المذكر، كما فعلوا في اليعسوب، ملكة النحل، فقد ظنوها مذكراً لضخامتها، ولم تتدارك اللغة ذلك إلا في العصر الحديث.. ومن هنا نعرف أن الآلهة، في معظمها، هي آلهة مؤنثة، فحتى الكواكب أطلقوا عليها أسماء مؤنثة، وكان لهذه الربات مزارات تمارس فيها الوظائف التي كانت تمارس في هياكل الربات في بلاد الرافدين. ولكن على الرغم من ذلك كله، لا نجد القصيدة الجاهلية تهتم كثيراً إلا بعشق الأنثى، عشقاً يتميز بالحسرة واللوعة على أثر رحيلها عن الديار. وهو عشق خاص لا مثيل له في كل آداب العالم. وما «الأطلال» سوى بقايا مزارات كانت تقدس، وتمارس فيها طقوس، كتلك التي في المعابد البابلية، فلما سادت الذكورية صارت أطلالاً تثير حزناً في النفوس، كما يثير رحيل المرأة عن هذه الديار شجناً وتحسراً؛ فكان النسيب وكانت الأطلال...

الموقف من الحياة

في هذه الظروف التي لمحنا إلى بعضها، ظهرت القصيدة. كل ما في الحياة من أحياء يتلاشى، قتلاً أو صيداً أو موتاً. لم تنتشر الزراعة حتى توحي بالتجدد والبعث. ولو أن الإله تموز ظهر في هذه الصحراء، لدفن بلا قيامة. فالحياة بكل تجلياتها تخضع للزمن، وبمنجله يحصد كل حي. ومن هذا المنطلق تكون ظاهرة «الأطلال» منسجمة مع نظرتهم الفلسفية: رحيل الأحبة يولد الحنين، وخراب الديار يولد الحكمة، والفرح فرصة لا تعوض، والمديح دعوة لتضامن الموجود أمام الوجود.

ولا بد أن نعود ونكرر أن البابليين كانت لهم مثل هذه النظرة: الخلود للآلهة والدمار لسواهم، من وجود وموجود.

لا نجد بنية عنيدة مثل القصيدة الجاهلية، فقد ظلت على ما هي: الرحيل والخراب قانون صارم للحياة. وقد غزت الجزيرة العربية الأديان التوحيدية، وهي أديان جعلت السيطرة للسماء على الأرض، فخلقت فردوساً تغري الناس به، ليؤمنوا بعالم مثالي، لا وجود له على الأرض، فيظل أمنية المنتسب. خذ المسيحية مثلاً. ماذا غيرت من شعر امرئ القيس، أو غير امرئ القيس من الشعراء المسيحيين الذين كرس لهم الأب لويس شيخو «شعراء النصرانية في الجاهلية»؟ ربما تسللت بعض المصطلحات الدينية، لكن هذا لم يغير من الأمر شيئاً. حتى الدين الإسلامي لم يكن له ذلك التأثير الذي يبالغ فيه بعض الدارسين. إن النظرة الفلسفية العبثية تكمن في صميم القصيدة الجاهلية، حتى بعد قرنين نسمع أبا العتاهية يقول «لدوا للموت وابنوا للخراب» ملخصاً جوهر الموقف الجاهلي. قد نقول إن المعري مشكوك في تقواه الدينية، ولكن ماذا نقول في الأخطل وفي البحتري وفي غير الأخطل والبحتري، كالفرزدق وجرير؟ وحتى النواسي يخضع لهذا المفهوم عندما ينظم ما اصطلحنا على تسميته «القصيدة».

لا نظن الدين ينتصر على الأدب. ففي العصور الوسطى حظرت المسيحية كل الآداب «الوثنية»، فلا غزل ولا مسرحيات تتحدث عن العالم الأرضي، عن قضايا البشر، فأنشأت أخوية في كل مدينة سمتها «أخوية الآلام» غرضها تقديم مسرح جديد يقوم على مفهوم أن العذاب في الحياة الفانية، لإعلاء الدين الجديد، يقابله العيش الرغيد في «الحياة الأبدية». لكن «الحياة الأدبية» انتصرت على «الحياة الأبدية»، فألغيت أخويات الآلام، وعاد الناس إلى ما دعت إليه القصيدة العربية من أن هذه الحياة رحيل وخراب، وكل اهتبال للفرح مكسب كبير.

واليوم تضاءلت «الحياة الأبدية» أمام «الحياة الأدبية» تضاؤلاً كبيراً جداً، فالأدب الحديث، هنا وغير هنا، يسير، عدا بقايا من التعصب الديني، على النظرة الفلسفية للقصيدة الجاهلية، التي قامت على تجربة حياتية، وليس على الغيبيات. بيد أن الحداثة أوغلت في تمجيد الفردية.

يرى هيدغر أن الفلسفة اهتمت بالموجود وأهملت الوجود، وهرعت إلى الغيبيات لمعالجته، بينما الاهتمام بالوجود يجعل الموجود ألصق به وأعلم، وبهذه العلاقة التي تصيبه بالقلق، يعرف نفسه، ويعرف كيف يتعامل مع الوجود. إن صوت هيدغر نسمعه واضحاً في القصيدة العربية. تعلمت القصيدة من الصحراء معنى الوجود، ومن الصيد معنى الرحيل والخراب والحنين الملتهب، ومن المرأة معنى الشجن والفرح والشوق.

إن الشعر العربي والعالمي اليوم، لم يرتق إلى «مستوى أطلال حضارتنا الحديثة» التي تملأ الأرض، كما ارتقى «الجاهليون» بشعرهم ونظرتهم. قد تكون الرواية المرشح الأول لهذه المهمة.

*ناقد وباحث من سوريا

* ينشر بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونية.