في الشكل، هناك رابحان في اتفاق وقف إطلاق النار في غزة: دونالد ترمب وحركة «حماس، وخاسران: جو بايدن وبنيامين نتنياهو. ترمب لأنه انتزع الفضل «في إنجاز الاتفاق، و» حماس «لأن الحرب لم تقض عليها فسارعت إلى إعلان» النصر«. أما بايدن صاحب المبادرة منذ مايو الماضي فحُرم من أبوة الاتفاق في إرثه وبقي رجل حرب وشريكاً مساهماً في قذارتها، وأما نتنياهو فأكمل تنكره لرئيس أمريكي تفانى في خدمته قابلاً «صفقة تبادل الأسرى» على مضض، ومفضلاً تكريم الرئيس الأمريكي التالي الذي لم يتردد في الضغط عليه كي يكف عن المماطلة التي أتبعها بالتواطؤ مع حلفائه في اليمين المتطرف.

كانت الإدارة الأمريكية سمحت لأنطوني بلينكن بالقول، إنها تفكر في إنهاء الحرب في يناير 2024 فافتتحت مساراً تفاوضياً بورقة أولى في باريس في الأسبوع الأخير من ذلك الشهر، وأتبعتها بورقة ثانية معدلة في فبراير، ثم بمقترح بايدن. لكن إسرائيل داومت على المطالبة بمزيد من الوقت لأن ثمة قتلاً وتدميراً في بنك أهدافها في خان يونس ورفح. كان عدد الضحايا أكثر من 25 ألفاً في بداية التفاوض قبل عام وأصبح أكثر من 47 ألفاً مع توقيع الاتفاق أخيراً (كان 36 ألفاً حين قيل إن هناك فرصة لتوقيع اتفاق في سبتمبر الماضي)، عدا 11 ألف مفقود، وتضاعف عدد المصابين من 63 ألفاً إلى أكثر من 110 آلاف. وكانت الأمم المتحدة تقدر حجم الدمار بنحو %40 ليصبح أخيراً في حدود %75. وبين دوافع المماطلة أن إسرائيل أرادت أن تحرر رهائنها بالقوة، فقتلت منهم ما يقرب من العدد الذي سيُطلق في المرحلة الأولى من اتفاق التبادل.

طوال عام التفاوض ظلت إدارة بايدن، حتى الساعات الأخيرة، تحمّل »حماس «مسؤولية الإخفاق في التوصل إلى »الصفقة«، مع أن الوسطاء لمسوا بشكل مباشر أن نتنياهو كان جاهزاً دائماً للتعطيل وليس فقط للعرقلة. وفيما كانت الإدارة تمتنع عن لوم إسرائيل» تشجيعاً«لها على البقاء في المفاوضات، كان نتنياهو يكسب الوقت في رهانه على تمديد الحرب إلى لحظة وصول ترمب إلى البيت الأبيض غير مكترث لـ»صهيونية «بايدن. وفي الآونة الأخيرة توعّد ترمب» حماس«مرّتين بـ»الجحيم «ما لم تفرج عن الرهائن قبل تنصيبه، وعندما تيقن من أن »حماس «قدمت الكثير من التنازلات، وأن الجانب الإسرائيلي هو الذي يعرقل، حمل مبعوثه رجل العقارات ستيف ويتكوف رسالة حازمة إلى نتنياهو بوجوب إنهاء التفاوض قبل التنصيب، وهكذا كان.


في جلسة المصادقة على الاتفاق بلع بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير تهديداتهما الكاذبة، وصوّتا ضد لكن من دون إسقاط الحكومة، وأبلغ نتنياهو الوزراء أن إقرار»الصفقة«يتيح لإسرائيل تعاوناً مع الإدارة الجديدة في واشنطن في مجالات عدة ذكر منها: أولاً،»التطبيع مع السعودية «متعمداً تجاهل أن الرياض وضعت شروطاً غير قابلة للتجاوز. وثانياً،»المواجهة مع إيران «متعمداً تناسي أن أولوية ترمب هي لاتفاق جديد مع طهران المنفتحة على الحوار في شأنه، وليست لعمل عسكري ضدها. ولا شك أن ترمب يبقى حليفاً موثوقاً به لإسرائيل، وفاءً لصديقه الراحل البليونير شيلدون أدلسون الذي تبرع بمئات ملايين الدولارات لشراء» الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل «وتتبرع بمثلها الآن أرملته ميريام أدلسون لشراء »ضم الضفة الغربية«، غير أن الوفاء لشيلدون قد لا يشمل نتنياهو الذي تلقّى تحذيرات ترمبية عدة كان آخرها إعادة نشر مقطع فيديو للأكاديمي الأمريكي جيفري ساكس الذي ينتقد فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي ويعتبره أحد أولئك الذين» يجرون الولايات المتحدة إلى حروب لا نهاية لها«.

على رغم الكلفة البشرية والعمرانية الفادحة للحرب على غزة واتفاق الوقف المؤقت لإطلاق النار، وعلى رغم أن الوسطاء الأمريكي والمصري والقطري اعتبروا دائماً أن هدف المفاوضات هو إنهاء الحرب، فإن أحداً في إدارتَيْ بايدن وترمب لم يشر إلى أن نتنياهو لا يزال رافضاً فكرة إنهاء الحرب، كما أن سموتريتش ربط موافقته على المرحلة الأولى باستئناف الحرب بعد انتهائها. والمريب أن معظم المحللين الأمريكيين والأوروبيين يشككون منذ الآن بنجاح المرحلة الثانية التي يبدأ التفاوض على تفاصيلها في اليوم السادس عشر من الأولى ويُفترض أن تحسم الوقف الدائم لإطلاق النار، كما يُراد لها أن تبحث في ما سمّي «اليوم التالي»، ومن يحكم غزة بعد الحرب. عندئذ سيكون ترمب وليس بايدن في الرئاسة ولا بد أن يكون له موقف واضح من السلطة الفلسطينية.

كانت «صفقة القرن» وضعت لغزّة تصوراً يجعل منها منتجعاً سياحياً واسعاً، أما الإسرائيليون فأزالوا معالم كثيرة وشوّهوا المشهد ليتمكّنوا من استيطان القطاع وإعادة البناء فيه وفقاً لأهدافهم.

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»