في فصل الشتاء يطول الليل ويحلو السمر والجلسات الطويلة. وتحلو معها القصص والحكايات والأشعار والأمثال والسوالف وأقوال العرب، حتى ينجلي الليل الطويل، ويطيح حطب النار بعد اشتعاله، وتطلع نجمة الصباح مبشرة خيرًا بشمس الدفء، لتضيء المكان وينقشع ظلام الليل وبرودته بشمس مشرقة ، معلنة بداية النهار ليوم جديد. ليتفرق الجمع والصحاب والسهارى، وتبقى كلمات الليل ذكرى تنتهي في مكانها البارد، وهي كذلك إلا مع هذا المحب العاشق الستيني المتقاعد، الذي أثر فيه كلام الليل وأشعار السمر التي قيلت في ليلة شتوية باردة. وهذا ما حدث في قصة أشبه للخيال من الحقيقة، حيث يقول المحب المتقاعد الستيني: سمعت كلمات عن الشتاء وأنا كبير في السن ومتقاعد ووحداني، والبرد له تأثيره لمن في مثل عمري، ومن الكلمات التي سمعتها:

«البرد ما هو برد عرعر و ﻻ الجوف

وﻻ تبوك الثلج.. وجبال حايل


البرد برد القلب في داخل الجوف

ﻻ حال ما بين المحبين حايل»

كذلك

«هبت هبوب الشمال وبردها شيني

ما تدفي النار لو حنا شعلناها

مايدفي إلا حضن مريوشة العيني

واللى عطشنا شربنا من ثناياها».

فهذه الكلمات رددتها كثيرا وحفظتها، فأثرت في، وقررت أن أبحث عن مريوشة العين، فسافرت إلى خارج الوطن بحثًا عنها، ولكنني صدمت بما شاهدت وتعرضت له وأنا في هذا العمر وشيخ كبير متأثرًا بنشوة القيل والقال، وكلام ليل الشتاء والقصص والحكايات، فعندها عرفت وتأكدت أنني ربيع مصفر تلعب به الأرياح من كل جانب.

وبمعرفة هذه الحقيقة المرة صحت بأعلى الصوت مناديا ويرجع لي صدى صوتي ومعه مقولة «يستاهل البرد من ضيع عباته»، و«من لا يعرفك يجهلك، ومن خرج من داره قل مقداره»، فقررت بسرعة مرة أخرى الرجوع إلى داري وأصحابي وجلسات السمر التي لا يحلو ليل الشتاء إلا بها، ولكنها إذا طلع عليها النهار ذابت كما تذوب السمنة على النار، وعندها كذلك تعلمت وفهمت وأيقنت أن ما كل يقال صحيح، وليس من سمع كمن رأي وجرب وحدث له. وكما قالوا: الإنسان يتعلم كل يوم من تجاربه وخبراته مهما بلغ من العمر حتى لو تجاوز سن التقاعد، فبعض الأمور ما لها داعي، خاصة بعد التقاعد، والكلام لفظ مفيد كأستقم وليس كالفعل.

وأخيرًا، ختم هذا المتقاعد حكايته وتجربة حب الشتاء البارد بأن يربي إبلا ويستأنس بها بدلا من البحث عن مريوشة العين، والناس فيما يعشوق حب وفكر ووناسة وتجربة وعلم وتعلم.