تطوير الخدمات الصحية ليس فقط ضرورياً لضمان صحة الأفراد ولكنه أيضاً ركيزة أساسية لتحقيق التنمية الشاملة والرفاهية في أي مجتمع من خلال تحسين جودة الحياة، ودعم الاقتصاد، وتعزيز الاستقرار الاجتماعي، وتشكيل رافد جيد لدعم الأبحاث الطبية والابتكارات التقنية الصحية، والتي من شأنها تعزيز كفاءة الخدمات الصحية. ومن هذا المنطلق كان من أولى اهتمامات ولاة أمرنا - حفظهم الله - وحكومتنا الرشيدة التركيز على تقديم خدمات صحية مثالية عالية المستوى، إضافة إلى أنها من أهم عناصر رؤية 2030 المباركة؛ ولهذا جاء مشروع مدينة الملك فيصل الطبية بالمنطقة الجنوبية كإحدى حلقات هذه السلسلة التنموية الصحية العملاقة، وكان إنشاؤها يُهدف لخدمة مناطق عسير وجازان ونجران والباحة، والتي يُقدر عدد سكانها قرابة الـ 6 ملايين نسمة، وقد بدأ العمل في هذا المشروع عام 2012، وكان من المقرر إنهاؤه عام 2015 ليحتوي عند نهايته على عدة مستشفيات ومراكز، ما بين مستشفى تخصصي وآخر لعلاج الأورام وأمراض القلب والأعصاب، وزراعة الأعضاء، وبسعة سريرية تبلغ 1350 سريرا، وكان من أهداف المشروع:

1 - تقليل السفر للعلاج في المدن الكبرى.

2 - توفير خدمات طبية متكاملة بمعايير عالمية.


3 - تدريب الكوادر الصحية المحلية وتقديم فرص تعليمية مُتقدمة.

4 - دعم البحوث الطبية والصحية.

وكان ظهور هذه المدينة الطبية للوجود بمثابة تحقيق حلم جميل لأهالي المنطقة طال انتظاره، إضافة إلى أنه يتماشى مع تحقيق رؤية 2030، التي كان من أهم أهدافها تطوير الخدمات الصحية الشاملة والمتكاملة في المملكة. ولكن وللأسف الشديد مضى هذا المشروع ولا زال يمضي في طريق مليء بالعثرات، فالجدول الزمني للمشروع لم يحظ بأي التزام طوال تلك السنوات؛ رغم التغييرات العديدة التي طرأت عليه والتي تزامنت مع تصريحات ووعود لم تحضر على الموعد من قبل المسؤولين، على الرغم من تقليص منشآته وسعته السريرية واختزاله إلى مستشفى واحد فقط. ولم نعد نرى كشاهد على هذا المشروع إلا هيكلاً أسمنتياً، وكأني به قد أصبح نصباً تذكارياً !!. وكأن عدوى التعثر قد انتشرت لتصيب كياناً صحياً عملاقا يقبع على بعد كيلومترات بسيطة من مشروع المدينة الطبية، وهنا أتحدث عن المستشفى الجامعي ذي الـ 800 سرير، والذي يتبع جامعة الملك خالد، ويبدو الأمر هنا أفضل مقارنة بسابقه، فهذا المستشفى قد اكتمل بناؤه وتجهيزه ولكن مشكلته تكمن في التشغيل، وتعجز الجامعة وفق إمكانياتها على فعل ذلك، ولو مرحلياً، ولا يبدو أن هناك حلولاً حقيقية تلوح في الأفق لحل تلك المعضلة. وهنا سوف أطرح بعض الحلول والاقتراحات حول تلك الإشكالات، هذا إذا وضعنا في الحسبان صعوبة أو استحالة إكمال مشروع المدينة الطبية:

1 - كلية الطب بجامعة الملك خالد تحوي بين جنباتها العدد الكبير من الأطباء المتميزين في كل التخصصات ولديها مستشفى مكتمل، ومدينة الملك فيصل الطبية لديها كفاءاتها الطبية التي قامت المدينة الطبية بتدريبهم وابتعاثهم خلال السنوات الماضية، وهم يعملون حالياً في مستشفيات وزارة الصحة والمستشفى العسكري والمستشفيات الخاصة، في انتظار افتتاح مدينتهم البعيدة المنال، فلماذا لا يتم التنسيق بين الجهتين لتشغيل المستشفى الجامعي والاستفادة من الرصيد المالي لدى المدينة الجامعية، والدعم المرتقب من وزارة الصحة، ولا يغيب عن أذهاننا أن مستشفى عسير المركزي ومستشفى النساء والولادة واللذان كانا لعقود مضت بمثابة المستشفيات الجامعية لكلية الطب.

2 - التعاقد مع شركة طبية ذات سمعة عالمية بعقد لمدة 5 إلى 10 سنوات لوضع نظام متكامل وشامل للمستشفى وتشغيله وفق أعلى معايير الجودة العالمية، على غرار مستشفى الملك فيصل التخصصي، وغيرها من المستشفيات العملاقة في المملكة، والمنطقة تستحق ذلك، مع الحذر والبعد من التشغيل الذاتي، والذي سوف يعيق ويؤخر تشغيل المستشفى.

3 - الاستفادة من صندوق الجامعات في تشغيل هذا المستشفى، ولو أن يأتي كقرض حسن يتم سداده فيما بعد، ونحن نعلم أن هذا الصندوق قد قام قبل سنوات بتمويل بناء مجمع الجامعة في القريقر.

4 - تقديم طلب قرض من وزارة المالية التي تقوم بتقديم القروض لبناء المنشآت الصحية الخاصة، بما يعادل 50 % من قيمة المشروع، وبحد يصل إلى 200 مليون ريال، والاستثناء هنا مطلوب ومنطقي، فهذا الكيان سوف يخدم المواطن بصورة شبه مجانية وعلى أرقى المستويات، وتسديد هذا القرض مضمون بإذن الله تعالى، إضافة إلى أن هذا القرض للجامعة أولى من إعطائه لملاك المستشفيات الخاصة من أصحاب المليارات.

5 - مخاطبة الأوقاف الأهلية الكبرى والتي لديها ملاءة مالية ضخمة ولديها أذرع استثمارية، وأعتقد أن الاستثمار في هذا الصرح الجامعي سوف يكون جاذباً، ويشكل مصداقية لدى المستثمر، هذا إن أضفنا أن الشراكة مع الوقف سوف تكون مشاركة مع جهة موثوقة وبعيدة كل البعد عن الخبث والمكر والطمع المعروف عن بقية الشراكات التجارية التقليدية.

6 - لماذا لا تأخذ جامعة الملك خالد قصب السبق وتطرح هذا الكيان الطبي في سوق الأسهم السعودي، وهي لن تطرح سوى 30 % من ملكيتها، وفي يقيني أنها سوف تستطيع التغلب على شروط التداول الأخرى، وهنا سوف تجني العديد من المكتسبات، فهي بما سوف تحصل عليه من عائدات الطرح الأولي سوف تقوم بتشغيل المستشفى بصورة مدروسة ومتدرجة، إضافة إلى أن سعر سهمها سوف يزداد بصورة جيدة ومرضية، مما يمكنها من الدخول في استثمارات أخرى تعود عليها بالعائد الذي يمكنها من أداء كل واجباتها المطلوبة.

7 - نعلم جيداً أن بنوكنا التجارية شديدة التقصير إن لم تكن معدومة في المشاركة في مسؤوليتها الاجتماعية رغم أرباحها الفلكية، فلماذا لا تتم مخاطبة تلك البنوك في منح قروض حسنة وطويلة الأمد، والجامعة على قدرة تامة بإذن الله تعالى على سداد تلك القروض، وهنا لا بد من التأكيد على أن تشغيل مثل تلك المشاريع الصحية العملاقة بحاجة إلى إدارة فعالة مع تنظيم هيكل إداري واضح، وتوظيف كفاءات طبية وإدارية مؤهلة، وتحسين الجودة بتطبيق أعلى معايير الجودة والسلامة، والتأكيد على استخدام تكنولوجيا المعلومات، ونظم إدارة المستشفيات الحديثة، مع أهمية التمويل المستدام من خلال إدارة الموارد المالية الذاتية بكفاءة، ومما يسهم في تقديم رعاية صحية عالية الجودة التقييم المستمر، ومراجعة الأداء وتحسين العمليات بشكل دوري.

وختاماً إن إيجاد الحلول وسرعة تنفيذها ضرورة ملحة وقصوى لظهور تلك المشاريع الصحية العملاقة إلى النور؛ لأن المواطن في أمس الحاجة لخدماتها، فمتى تأتي اللحظة التي نراها وقد انخرطت في منظومة الخدمات الصحية بالمنطقة؟.