فرانك جونغرز، الرئيس الأمريكي لشركة الزيت العربية الأمريكية في منتصف السبعينيات، حين أصدر مذكراته في 2014، أي قبل رحيله بتسع سنوات، اختار لها عنوانًا يتغزل بالبيئة الحاضنة لهذه الشركة، وهو «وتمضي القافلة». فيما اختارت دار النشر أن تجعل من الغلاف شرحًا لهذا العنوان، فكانت الصورة لقافلة من جمال على طرف أحد الطرق الحديثة المعبدة في امتداد الصحراء. هذا الاستخدام لتعبير «القافلة» وصورة «الجمال» ليس بالجديد في سيرة الشركة، وله ما يبرره في ذاكرة هذا الرئيس الراحل، فقد حضرت منذ البدايات وكأنها الصورة الأيقونية للحظة التحول التي يراد فيها التأكيد على المفارقة، ما بين الجمل الذي أنقذ إنسان الجزيرة وهو يهبه الوسيلة للتنقل عبر الصحراء، وما بين النفط الذي بدل صورة البداوة وسمح للأرض أن ترتحل من صورة لأخرى، وبالتالي الدخول في فصول التنمية والحضارة الجديدة.

خيال الآخر الغربي كان ومازال يقابل صورة الجزيرة العربية بصورة الجمال، يختزل ملامح الإنسان في صورة قوافل تقطع الصحراء على ظهور الجمال، الجمال التي رافقت إنسان الصحراء في مغامراته وسفراته، فكانت أكثر الكائنات تحملا للمشقة، والصبر، والترحال.

أحال الأمريكان الأوائل دهشتهم من قساوة الصحراء، وصلابة سكانها، ومنظر قوافل الجمال وهي تتأرجح فوق كثبان الرمال، إلى تصورات عن هذا الآخر الذي تعرفوا إليه من خلال علاقته بالترحال والجمال. كانوا كمن يقيس مدى التقدم لديه، بمدى تأخر طرائق الحياة عند الشعوب البعيدة عن مرحلة الصناعة، يحرصون على توثيق هذه الانعطافة على هامش نص الصناعة النفطية، بحيث يستعصي على الإنسان المحلي نسيان هذه اللحظة التي خرج فيها من الهامش وأدخل في متن الحياة.


من هنا يمكن فهم وصف الطائرة الأولى بـ«الجمل الطائر»، و اختيار اسم «القافلة» للمجلة الصادرة باللغة العربية فيها، ومثلها «قافلة الزيت» للنشرة الداخلية والتي أصبحت مؤخرا تحمل إسم «القافلة الأسبوعية»، فكلها تحيل على قاموس التصورات النمطية التي جرى استدماجها وإعادة استخدامها لتصبح ضمن مجازات الخطاب الإعلامي في مرحلة البدايات.

صورة «الجمل الحائر» تحضر هي الأخرى ضمن الإرشيف الفوتوغرافي الذي قدمه الأمريكان في توثيق بدايات النفط في شرق السعودية، وتركوا الوصف فيه لتفسيرات الناس، ساعة ينظرون إلى صورة البدوي وبعيره قبالة معامل التكرير، أو منصات الحفر. كانت هذه الصور حاضرة بكثافة في إرشيف المصور «روبرت يارنال ريتشي»، والذي حرص على إبرازها حتى ضمن الفيلم الوثائقي الذي قدمه عن الشركة في الخمسينيات.. تكررالمشهد ذاته في صور الأمريكي الأوكراني الأصل «ديمتري كيسيل»، في تغطيته لنفط الشرق الأوسط لصالح مجلة لايف في الأربعينيات. كان مولعًا بهذه المفارقة وهو يرصد البادية قبالة صناعة النفط، مرر صورا شبيهة للرعي في العراق وإيران في ذلك الملف، إلى جانب قافلة الجمال العابرة من أمام منصة الحفر بالسعودية.

حيرة البدوي تعادل حيرة الغربي في وصف الكائن الجديد الذي اكتشفه للتو، وأصبح معنيًا بصناعة حاضرته ومستقبله معًا، هذا الشريك الذي جلبه القدر، حيث أفاض عليه ينابيع للنفط تحت رجليه.. مرات عدة يظهر فيها البدوي محملقًا في معجزة الكاوبوي، في دخان أسود لا يعرف قيمته ولا حقيقته على السواء، عدد يكفي لإثارة السؤال عن صورة يجري إعدادها دراميًا، عن جمل لا يكترث لكل السياجات المحيطة، وعن عدسة غربية تجد ضالتها في تنميط العربي ضمن أيقونة الرجل المفتون ببعيره.

ما يبدو عفويًا ضمن بناء الصورة يصبح حين التدقيق وجمع الصور المتشابهة استشراقًا بصريًا، يتجاوز حد التوثيق إلى تثبيت هوية منمطة لهذا المجتمع المجهول، السياق التاريخي لهذه الصورة يهبنها نصف الطريق للإجابة، وميول المصورين الأجانب في الشركة يومها تعزز ما تبقى من شكوك، بأن صورة الجمل قد هيمنت على مخيال هذه العدسات، فما اكتشفه الغرب في البلدان العربية النفطية بحسب عدساتهم ليس النفط وحده، بل مجتمعًا يحيًا على هامش التاريخ، وهامش التحولات، يتلبس روح الجمل في سلوكه، وحراكه، وانشغاله بالبحث عن الماء والكلأ، كما تلبس أولئك المصورون روح مصوري الاستشراق، من أولئك الذين يهندسون صورة الآخر بطريقة تسوغ مشاعر الفوقية وتبررها، وتعزز من صورة المجتمعات العاجزة التي لا حياة لها إلا بحضور الأبيض المتحضر.