ومهما يكن رأى الناقد « الأدبي" في هذا الشكل الجديد فقد سبقته في المسرح أشكال من التأليف والإخراج أصبح النص الأدبي فيها مجرد عنصر من عناصر «العرض المسرحي»، وأصبح على الناقد أن يلم بجميع عناصر العرض من نص وإخراج وحركة وإضاءة وموسيقى ولوحات راقصة ومواقف رمزية وغير ذلك. قد مضى زمن طويل تجاهل فيه النقاد التمثيلية الإذاعية ثم لم يجدوا بدا بعد ذلك من دراستها دراسة شاملة جادة حتى كانت مادة لأبحاث جامعية. واليوم يفرض المسلسل التليفزيوني وجوده على أكثر الناس ، سواء منهم من يشاهدونه ومن يسمعون أبناءهم وذويهم يتحاورون حول موضوعه وأحداثه وشخصياته. ولا مفر، إذا أريد لهذا الشكل الجديد أن يبلغ مستوى فنيا مرموقا لدينا وأن يكون ذا أثر طيب في حياتنا الفكرية والفنية والجمالية، من أن نعترف به ونؤمن بأنه جدير بالدراسة والتقويم.
وقد تابعت في المدة الأخيرة بعض ما يعرض في التليفزيون المصري من مسلسلات وحاولت أن أتبين فيها عناصر مشتركة لعلها تكون وراء ما يضيق به المشاهدون منها برغم إقبالهم عليها ومتابعتهم إياها. ولا يعني هذا أن تلك المسلسلات خالية دائما من الإجادة في التأليف والتمثيل والإخراج، ولكن عمدت إلى رصد ما يقع فيه المؤلفون والمخرجون من أخطاء مقصودة للضرورة أحيانا؛ أو غير مقصودة ، لفهم خاص لطبيعة هذا الشكل الفني الجديد في بعض الأحيان.
والضرورات تتمثل في أوضاع مالية وتجارية، وفي ظروف الممثلين الذين يسافرون إلى الخارج في كثير من الأحيان حيث تسجل تلك المسلسلات ولا شك أن ذلك يقتفي أن يكون المسلسل ذا طول يتناسب مع مشاق الرحلة، وذا عائد مالي يستحق ما فيها من عناء. وقد تكون هناك « ضرورات فنية » عند بعض المؤلفين الذين يفلت زمام الأحداث والشخصيات من أيديهم ولا يدرون كيف يسيطرون على الخط الأساسي للمسلسل، أو عند المخرجين الذين يفهمون (التشويق) على نحو خاص يتمثل في ربط المشاهد بالمسلسل أطول مدى ممكن، وقد يرتبط المشاهد حقا ببعض هذه الأعمال بحكم العادة أو بطبيعته المستقبلة التي تتلقى ما يعرض عليها دون تحليل أو مناقشة أو رفض؛ وإن أحس مع ذلك بعيوب واضحة فيما يرى وما يسمع.
ولا شك أن أبرز تلك العيوب بطء الإيقاع وتشعب الأحداث وتداخلها وكثرة الشخصيات الرئيسية والثانوية وتنوع الدلالات الاجتماعية والسلوكية والسياسية، وكأن المؤلف يريد أن يحل مشكلات العالم أجمع في مسلسل واحد!
ولعل المؤلفين يؤثرون هذا اللون من التمثيليات لأنه ييسر أمامهم أمر التأليف ولا يفرض عليهم أن ينموا قصة واحدة أساسية ويعمقوا أبعادها بالامتداد لا بالتشعب، مستعينين ببعض القصص الثانوية اليسيرة التي تلقى الأضواء على الحدث الرئيسي ولا تشغل المؤلف - والمشاهد في النهاية - عن متابعته.
ويجد المخرج في هذا النوع من التأليف المشتت الموضوع والشخصيات والدلالة عونا طيبا في إخراج الحلقة الواحدة بأيسر الجهد، فما تكاد الكاميرا تقف بضع دقائق هنا لتتابع موضوعا أو شخصيات حتى تنتقل هناك لتتابع موضوعا آخر وشخصيات أخرى، وما تكاد كل الموضوعات الجزئية والشخصيات والدلالات تنال نصيبها من التصوير حتى تكون الحلقة قد انتهت دون أن تكون قد أضافت شيئا يذكر إلى تطور الأحداث ونماء الشخصيات.
1983*
* شاعر وناقد مصري « 1916 - 2002».